القول في تأويل قوله تعالى : (
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( 63 ) )
[ ص: 230 ] يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم : ( لا تجعلوا أيها المؤمنون دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : نهى الله بهذه الآية المؤمنين أن يتعرضوا لدعاء الرسول عليهم ، وقال لهم : اتقوا دعاءه عليكم ، بأن تفعلوا ما يسخطه ، فيدعو لذلك عليكم فتهلكوا ، فلا تجعلوا دعاءه كدعاء غيره من الناس ، فإن دعاءه موجبة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : (
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) دعوة الرسول عليكم موجبة ، فاحذروها .
وقال آخرون : بل ذلك نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء ، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
كدعاء بعضكم بعضا ) قال : أمرهم أن يدعوا : يا رسول الله ، في لين وتواضع ، ولا يقولوا : يا
محمد ، في تجهم .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد مثله ، (
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) قال : أمرهم أن يدعوه : يا رسول الله ، في لين وتواضع .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : (
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) قال : أمرهم أن يفخموه ويشرفوه .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله
ابن عباس ، وذلك أن الذي قبل قوله : (
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) نهي من الله المؤمنين أن يأتوا من الانصراف عنه في الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه ، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه ، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه أن يضطره إلى الدعاء عليهم أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء .
[ ص: 231 ] وقوله : (
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) يقول تعالى ذكره : إنكم أيها المنصرفون عن نبيكم بغير إذنه ، تسترا وخفية منه ، وإن خفي أمر من يفعل ذلك منكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يعلم ذلك ، ولا يخفى عليه ، فليتق من يفعل ذلك منكم ، الذين يخالفون أمر الله في
الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ، أن تصيبهم فتنة من الله ، أو يصيبهم عذاب أليم ، فيطبع على قلوبهم ، فيكفروا بالله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
الحكم بن بشير ، قال : ثنا
عمرو بن قيس ، عن
جويبر ، عن
الضحاك ، في قول الله : (
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) قال : كانوا يستتر بعضهم ببعض ، فيقومون ، فقال : (
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ) قال : يطبع على قلبه ، فلا يأمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه .
حدثنا
ابن القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، قوله : (
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) قال : خلافا .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) قال : هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : اللواذ : يلوذ عنه ، ويروغ ويذهب بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم (
فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) الذين يصنعون هذا أن تصيبهم فتنة ، أو يصيبهم عذاب أليم . الفتنة هاهنا : الكفر ، واللواذ : مصدر لاوذت بفلان ملاوذة ولواذا ، ولذلك ظهرت الواو ، ولو كان مصدرا للذت لقيل : لياذا ، كما يقال : قمت قياما ، وإذا قيل : قاومتك ، قيل : قواما طويلا . واللواذ : هو أن يلوذ القوم بعضهم ببعض ، يستتر هذا بهذا ، وهذا بهذا ، كما قال
الضحاك .
وقوله : (
أو يصيبهم عذاب أليم ) يقول : أو يصيبهم في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع ، على صنيعهم ذلك ، وخلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : (
فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) وأدخلت " عن " ; لأن معنى الكلام : فليحذر الذين يلوذون عن أمره ، ويدبرون عنه معرضين .