القول في
تأويل قوله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ( 23 )
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ( 24 ) )
يقول تعالى ذكره : ( وقدمنا ) وعمدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون ( من عمل ) ; ومنه قول الراجز :
[ ص: 257 ] وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم وقالوا
إن دماءكم لنا حلال
يعني بقوله : قدم : عمد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : ( وقدمنا ) قال : عمدنا .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، مثله وقوله : (
فجعلناه هباء منثورا ) يقول : فجعلناه باطلا لأنهم لم يعملوه لله وإنما عملوه للشيطان .
والهباء : هو الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوة يحسبه الناظر غبارا ليس بشيء تقبض عليه الأيدي ولا تمسه ، ولا يرى ذلك في الظل .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، قال : ثنا
محمد ، قال : ثنا
شعبة ، عن
سماك ، عن
عكرمة أنه قال في هذه الآية (
هباء منثورا ) قال : الغبار الذي يكون في الشمس .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
أبي رجاء ، عن
الحسن ، في قوله : (
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) قال : الشعاع في كوة أحدهم إن ذهب يقبض عليه لم يستطع .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
هباء منثورا ) قال : شعاع الشمس من الكوة .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
[ ص: 258 ] مجاهد ، مثله .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
الحسن ، في قوله : (
هباء منثورا ) قال : ما رأيت شيئا يدخل البيت من الشمس تدخله من الكوة ، فهو الهباء .
وقال آخرون : بل هو ما تسفيه الرياح من التراب ، وتذروه من حطام الأشجار ، ونحو ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ، عن
ابن عباس ، قوله : (
هباء منثورا ) قال : ما تسفي الريح تبثه .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة (
هباء منثورا ) قال : هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
هباء منثورا ) قال : الهباء : الغبار .
وقال آخرون : هو الماء المهراق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
عبد الله بن صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله : (
هباء منثورا ) يقال : الماء المهراق .
وقوله جل ثناؤه : (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) يقول تعالى ذكره : أهل الجنة يوم القيامة خير مستقرا ، وهو الموضع الذي يستقرون فيه من منازلهم في الجنة من مستقر هؤلاء المشركين الذين يفتخرون بأموالهم ، وما أوتوا من عرض هذه الدنيا في الدنيا ، وأحسن منهم فيها مقيلا .
فإن قال قائل : وهل في الجنة قائلة؟ فيقال : (
وأحسن مقيلا ) فيها؟ قيل : معنى ذلك : وأحسن فيها قرارا في أوقات قائلتهم في الدنيا ، وذلك أنه ذكر أن أهل الجنة لا يمر فيهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار من أوله إلى وقت القائلة ، حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة ، فذلك معنى قوله : (
وأحسن مقيلا ) .
[ ص: 259 ] ذكر الرواية عمن قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) يقول : قالوا في الغرف في الجنة ، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وهو مثل قوله : (
فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا ) .
حدثني
أبو السائب ، قال : ثنا
أبو معاوية ، عن
الأعمش ، عن
إبراهيم ، في قوله : (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) قال : كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة في نصف النهار ، فيقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) قال : لم ينتصف النهار حتى يقضي الله بينهم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار . قال : وفي قراءة
ابن مسعود : ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) قال : قال
ابن عباس : كان الحساب من ذلك في أوله ، وقال القوم حين قالوا في منازلهم من الجنة ، وقرأ (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : أخبرنا
عمرو بن الحارث أن
سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقضى على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، فذلك قول الله : (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) .
قال
أبو جعفر : وإنما قلنا : معنى ذلك : خير مستقرا في الجنة منهم في الدنيا ، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله : (
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) جميع أحوال الجنة في الآخرة أنها خير في الاستقرار فيها ، والقائلة من جميع أحوال أهل النار ، ولم يخص بذلك أنه خير من أحوالهم في النار دون الدنيا ، ولا في الدنيا دون الآخرة ، فالواجب أن يعم كما عم ربنا جل ثناؤه ، فيقال : أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرا
[ ص: 260 ] في الجنة من أهل النار في الدنيا والآخرة ، وأحسن منهم مقيلا وإذا كان ذلك معناه ، صح فساد قول من توهم أن تفضيل أهل الجنة بقول الله : (
خير مستقرا ) على غير الوجه المعروف من كلام الناس بينهم في قولهم : هذا خير من هذا ، وهذا أحسن من هذا .