القول في
تأويل قوله تعالى : ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ( 22 )
قال فرعون وما رب العالمين ( 23 )
قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ( 24 ) )
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه
موسى صلى الله عليه وسلم
لفرعون (
وتلك نعمة تمنها علي ) يعني بقوله : وتلك ، تربية
فرعون إياه ، يقول : وتربيتك إياي ، وتركك استعبادي ، كما استعبدت
بني إسرائيل نعمة منك تمنها علي بحق . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه ، وهو : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت
بني إسرائيل وتركتني ، فلم تستعبدني ، فترك ذكر " وتركتني " لدلالة قوله (
أن عبدت بني إسرائيل ) عليه ، والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام ، ونظير ذلك في الكلام أن يستحق رجلان من ذي سلطان عقوبة ، فيعاقب أحدهما ، ويعفو عن الآخر ، فيقول المعفو عنه هذه نعمة علي من الأمير أن عاقب فلانا ، وتركني ، ثم حذف " وتركني " لدلالة الكلام عليه ، ولأن في قوله : (
أن عبدت بني إسرائيل ) وجهين : أحدهما النصب ، لتعلق " تمنها " بها ، وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها علي لتعبدك
بني إسرائيل . والآخر : الرفع على أنها رد على النعمة . وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها علي تعبيدك
بني إسرائيل . ويعني بقوله : (
أن عبدت بني إسرائيل ) : أن اتخذتهم عبيدا لك . يقال منه : عبدت العبيد وأعبدتهم ، قال الشاعر :
علام يعبدني قومي وقد كثرت فيها أباعر ما شاءوا وعبدان
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) قال : قهرتهم واستعملتهم .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال :
[ ص: 343 ] تمن علي أن عبدت
بني إسرائيل ، قال : قهرت وغلبت واستعملت
بني إسرائيل .
حدثنا
موسى بن هارون ، قال : ثنا
عمرو ، قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) وربيتني قبل وليدا .
وقال آخرون : هذا استفهام كان من
موسى لفرعون ، كأنه قال : أتمن علي أن اتخذت
بني إسرائيل عبيدا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : (
وتلك نعمة تمنها علي ) قال : يقول
موسى لفرعون : أتمن علي أن اتخذت أنت
بني إسرائيل عبيدا .
واختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي
البصرة : وتلك نعمة تمنها علي ، فيقال : هذا استفهام كأنه قال : أتمنها علي ؟ ثم فسر فقال : (
أن عبدت بني إسرائيل ) وجعله بدلا من النعمة . وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول ، ويقول : هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقى ، وهو يطلب ، فيكون الاستفهام كالخبر ، قال : وقد استقبح ومعه أم ، وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا :
تروح من الحي أم تبتكر وماذا يضرك لو تنتظر ؟
قال : وقال بعضهم : هو أتروح من الحي ، وحذف الاستفهام أولا اكتفاء بأم . وقال أكثرهم : بل الأول خبر ، والثاني استفهام ، وكأن " أم " إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف ، فأما وليس معه أم ، فلم يقله إنسان .
وقال بعض نحويي
الكوفة في ذلك ما قلنا . وقال : معنى الكلام : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي : أي لنعمة تربيتي لك ، فأجابه فقال : نعم هي نعمة علي أن عبدت الناس ولم تستعبدني .
وقول (
قال فرعون وما رب العالمين ) يقول : وأي شيء رب العالمين ؟
( قال )
[ ص: 344 ] موسى هو (
رب السماوات والأرض ) ومالكهن (
وما بينهما ) يقول : ومالك ما بين السموات والأرض من شيء . (
إن كنتم موقنين ) يقول : إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه ، فكذلك فأيقنوا أن ربنا هو رب السموات والأرض وما بينهما .