القول في
تأويل قوله تعالى : ( وإنه لفي زبر الأولين ( 196 )
أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ( 197 )
ولو نزلناه على بعض الأعجمين ( 198 )
فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ( 199 )
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ( 200 )
لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ( 201 ) )
يقول تعالى ذكره : وإن هذا القرآن لفي زبر الأولين : يعني في كتب الأولين ، وخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص ، وإنما هو : وإن هذا القرآن لفي بعض زبر الأولين ; يعني : أن ذكره وخبره في بعض ما نزل من الكتب على بعض رسله . وقوله : (
أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) يقول تعالى ذكره : أولم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا
محمد من ذكر ربك ، دلالة على أنك رسول رب العالمين ، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء
بني إسرائيل . وقيل : عني بعلماء
بني إسرائيل في هذا الموضع :
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام ومن أشبهه ممن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من
بني إسرائيل في عصره .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : (
أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) قال : كان
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام من علماء
بنى إسرائيل ، وكان من خيارهم ، فآمن بكتاب
محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الله : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء
بني [ ص: 398 ] إسرائيل وخيارهم .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : (
علماء بني إسرائيل ) قال :
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : (
أولم يكن لهم آية ) قال
محمد : ( أن يعلمه ) قال : يعرفه . (
علماء بني إسرائيل ) . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال
مجاهد : علماء
بني إسرائيل :
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام ، وغيره من علمائهم .
حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : (
أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) قال : أولم يكن للنبي آية ، علامة أن علماء
بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم ؟ . وقوله : (
ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) يقول تعالى ذكره : ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق ، وإنما قيل على بعض الأعجمين ، ولم يقل على بعض الأعجميين ، لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بالعجمة وأنه لا يفصح بالعربية : هذا رجل أعجم ، وللمرأة : هذه امرأة عجماء ، وللجماعة : هؤلاء قوم عجم وأعجمون ، وإذا أريد هذا المعنى وصف به العربي والأعجمي ، لأنه إنما يعني أنه غير فصيح اللسان ، وقد يكون كذلك ، وهو من العرب ومن هذا المعنى قول الشاعر :
من وائل لا حي يعدلهم من سوقة عرب ولا عجم
فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم ، لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان ،
[ ص: 399 ] فإنه يقال : هذا رجل عجمي ، وهذان رجلان عجميان ، وهؤلاء قوم عجم ، كما يقال : عربي ، وعربيان ، وقوم عرب . وإذا قيل : هذا رجل أعجمي ، فإنما نسب إلى نفسه كما يقال للأحمر : هذا أحمري ضخم ، وكما قال
العجاج :
والدهر بالإنسان دواري
ومعناه : دوار ، فنسبه إلى فعل نفسه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى ، قال : ثنا
عبد الأعلى ، قال : ثنا
داود ، عن
محمد بن أبي موسى ، قال : كنت واقفا إلى جنب
عبد الله بن مطيع بعرفة ، فتلا هذه الآية : (
ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) قال : لو نزل على بعيري هذا فتكلم به ما آمنوا به (
لقالوا لولا فصلت آياته ) حتى يفقهه عربي وعجمي ، لو فعلنا ذلك .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
ابن إدريس ، قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند ، عن
محمد بن أبي موسى ، قال : كان
عبد الله بن مطيع واقفا
بعرفة ، فقرأ هذه الآية (
ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) قال : فقال : جملي هذا أعجم ، فلو أنزل على هذا ما كانوا به مؤمنين .
[ ص: 400 ]
وروي عن
قتادة في ذلك ما حدثنا
الحسن ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة : (
ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) قال : لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به ، لأنهم لا يعرفون بالعجمية .
وهذا الذي ذكرناه عن
قتادة قول لا وجه له ، لأنه وجه الكلام أن معناه : ولو أنزلناه أعجميا ، وإنما التنزيل (
ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) يعني : ولو نزلنا هذا القرآن العربي على بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح ، ولم يقل : ولو نزلناه أعجميا . فيكون تأويل الكلام ما قاله .
وقوله (
فقرأه عليهم ) يقول : فقرأ هذا القرآن _ على كفار قومك يا
محمد الذين حتمت عليهم أن لا يؤمنوا ذلك الأعجم ما كانوا به مؤمنين . يقول : لم يكونوا ليؤمنوا به ، لما قد جرى لهم في سابق علمي من الشقاء ، وهذا تسلية من الله نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه ، لئلا يشتد وجده بإدبارهم عنه ، وإعراضهم عن الاستماع لهذا القرآن ، لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه على قبولهم منه ، والدخول فيما دعاهم إليه ، حتى عاتبه ربه على شدة حرصه على ذلك منهم ، فقال له : (
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) ثم قال مؤيسه من إيمانهم وأنهم هالكون ببعض مثلاته ، كما هلك بعض الأمم الذين قص عليهم قصصهم في هذه السورة . ولو نزلناه على بعض الأعجمين يا
محمد لا عليك ، فإنك رجل منهم ، ويقولون لك : ما أنت إلا بشر مثلنا ، وهلا نزل به ملك ، فقرأ ذلك الأعجم عليهم هذا القرآن ، ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق ، وأنه تنزيل من عندي ، ما كانوا به مصدقين ، فخفض من حرصك على إيمانهم به ، ثم وكد تعالى ذكره الخبر عما قد حتم على هؤلاء المشركين ، الذين أيس نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم من إيمانهم من الشقاء والبلاء ، فقال : كما حتمنا على هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن (
ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم كذلك سلكناه ) التكذيب والكفر (
في قلوب المجرمين ) . ويعني بقوله : سلكنا : أدخلنا ، والهاء في قوله ( سلكناه ) كناية من ذكر قوله (
ما كانوا به مؤمنين ) ، كأنه قال : كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين ترك الإيمان بهذا القرآن .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
[ ص: 401 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قوله : (
كذلك سلكناه ) قال : الكفر (
في قلوب المجرمين ) .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) .
حدثني
علي بن سهل ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15942زيد بن أبي الزرقاء ، عن
سفيان ، عن
حميد ، عن
الحسن ، في هذه الآية : (
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) قال : خلقناه .
قال : ثنا
زيد ، عن
حماد بن سلمة ، عن
حميد ، قال : سألت
الحسن في بيت
أبي خليفة ، عن قوله (
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) قال : الشرك سلكه في قلوبهم . وقوله : (
لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) يقول : فعلنا ذلك بهم لئلا يصدقوا بهذا القرآن ، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا ، كما رأت ذلك الأمم الذين قص الله قصصهم في هذه السورة . ورفع قوله ( لا يؤمنون ) لأن العرب من شأنها إذا وضعت في موضع مثل هذا الموضع " لا " ربما جزمت ما بعدها ، وربما رفعت فتقول : ربطت الفرس لا تنفلت ، وأحكمت العقد لا ينحل ، جزما ورفعا . وإنما تفعل ذلك لأن تأويل ذلك : إن لم أحكم العقد انحل ، فجزمه على التأويل ، ورفعه بأن الجازم غير ظاهر .
ومن الشاهد على الجزم في ذلك قول الشاعر :
لو كنت إذ جئتنا حاولت رؤيتنا أو جئتنا ماشيا لا يعرف الفرس
وقول الآخر :
[ ص: 402 ] لطالما حلأتماها لا ترد فخلياها والسجال تبترد