القول في
تأويل قوله تعالى : ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ( 81 ) )
يقول تعالى ذكره : فخسفنا
بقارون وأهل داره . وقيل : وبداره ، لأنه ذكر أن
موسى إذ أمر الأرض أن تأخذه أمرها بأخذه ، وأخذ من كان معه من جلسائه في داره ، وكانوا جماعة جلوسا معه ، وهم على مثل الذي هو عليه من النفاق والمؤازرة على أذى
موسى .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
جابر بن نوح ، قال : أخبرنا
الأعمش ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15342المنهال بن عمرو ، عن
عبد الله بن الحارث ، عن
ابن عباس ، قال : لما نزلت الزكاة أتى
قارون موسى ، فصالحه على كل ألف دينار دينارا ، وكل ألف شيء شيئا ، أو قال : وكل ألف شاة شاة "
الطبري يشك " قال : ثم أتى بيته فحسبه فوجده كثيرا ، فجمع
بني إسرائيل ، فقال : يا
بني إسرائيل ، إن
موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أن يأخذ من أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا وأنت سيدنا ، فمرنا بما شئت ، فقال : آمركم
[ ص: 630 ] أن تجيئوا بفلانة البغي ، فتجعلوا لها جعلا فتقذفه بنفسها ، فدعوها فجعل لها جعلا على أن تقذفه بنفسها ، ثم أتى
موسى ، فقال
لموسى : إن
بني إسرائيل قد اجتمعوا لتأمرهم ولتنهاهم ، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض ، فقال : يا
بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة ، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت ، أو رجمناه حتى يموت "
الطبري يشك " فقال له
قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن
بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة . قال : ادعوها ، فإن قالت ، فهو كما قالت ; فلما جاءت قال لها
موسى : يا فلانة ، قالت : يا لبيك ، قال : أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ قالت : لا وكذبوا ، ولكن جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي ; فوثب ، فسجد وهو بينهم ، فأوحى الله إليه : مر الأرض بما شئت ، قال : يا أرض خذيهم ! فأخذتهم إلى أقدامهم . ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم . ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى حقيهم ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم ; قال : فجعلوا يقولون : يا
موسى يا
موسى ، ويتضرعون إليه . قال : يا أرض خذيهم ، فانطبقت عليهم ، فأوحى الله إليه : يا
موسى ، يقول لك عبادي : يا
موسى ، يا
موسى فلا ترحمهم ؟ أما لو إياي دعوا ، لوجدوني قريبا مجيبا ; قال : فذلك قول الله : (
فخرج على قومه في زينته ) وكانت زينته أنه خرج على دواب شقر عليها سروج حمر ، عليهم ثياب مصبغة بالبهرمان .
(
قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ) . . . إلى قوله : (
إنه لا يفلح الكافرون ) يا
محمد (
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
يحيى بن عيسى ، عن
الأعمش ، عن
المنهال ، عن رجل ، عن
ابن عباس قال : لما أمر الله
موسى بالزكاة ، قال : رموه بالزنا ، فجزع من ذلك ، فأرسلوا إلى امرأة كانت قد أعطوها حكمها ، على أن ترميه بنفسها ; فلما جاءت عظم عليها ، وسألها بالذي فلق البحر
لبني إسرائيل ، وأنزل التوراة على
موسى إلا صدقت . قالت : إذ قد استحلفتني ، فإني أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، فخر ساجدا
[ ص: 631 ] يبكي ، فأوحى الله تبارك وتعالى : ما يبكيك ؟ قد سلطناك على الأرض ، فمرها بما شئت ، فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ما شاء الله ، فقالوا : يا
موسى ، يا
موسى ، فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ما شاء الله ، فقالوا : يا
موسى ، يا
موسى ، فخسفتهم . قال : وأصاب
بني إسرائيل بعد ذلك شدة وجوع شديد ، فأتوا
موسى ، فقالوا : ادع لنا ربك ; قال : فدعا لهم ، فأوحى الله إليه : يا
موسى ، أتكلمني في قوم قد أظلم ما بيني وبينهم خطاياهم ، وقد دعوك فلم تجبهم ، أما إياي لو دعوا لأجبتهم .
حدثنا
ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن
الأعمش ، عن
المنهال ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
فخسفنا به وبداره الأرض ) قال : قيل للأرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أعقابهم ; ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم ; ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى أحقائهم ; ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم ; ثم قيل لها : خذيهم ، فخسف بهم ، فذلك قوله : (
فخسفنا به وبداره الأرض ) .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16643علي بن هاشم بن البريد ، عن
الأعمش ، عن
المنهال ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
إن قارون كان من قوم موسى ) قال : كان ابن عمه ، وكان
موسى يقضي في ناحية
بني إسرائيل ،
وقارون في ناحية ، قال : فدعا بغية كانت في
بني إسرائيل ، فجعل لها جعلا على أن ترمي
موسى بنفسها ، فتركته إذا كان يوم تجتمع فيه بنو إسرائيل إلى
موسى ، أتاه
قارون فقال : يا
موسى ما حد من سرق ؟ قال : أن تنقطع يده ، قال : وإن كنت أنت ؟ قال : نعم ; قال . فما حد من زنى ؟ قال : أن يرجم ، قال : وإن كنت أنت ؟ قال : نعم ; قال : فإنك قد فعلت ، قال : ويلك بمن ؟ قال : بفلانة ، فدعاها
موسى ، فقال : أنشدك بالذي أنزل التوراة ، أصدق
قارون ؟ قالت : اللهم إذ نشدتني ، فإني أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، وأن عدو الله
قارون جعل لي جعلا على أن أرميك بنفسي ; قال : فوثب
موسى ، فخر ساجدا لله ، فأوحى الله إليه أن ارفع رأسك ، فقد أمرت الأرض أن تطيعك ، فقال
موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم حتى بلغوا الحقو ، قال : يا
موسى ; قال : خذيهم ، فأخذتهم حتى بلغوا الصدور ، قال : يا
موسى ، قال : خذيهم ، قال : فذهبوا . قال : فأوحى الله إليه يا
موسى : استغاث بك فلم تغثه ، أما لو استغاث بي لأجبته ولأغثته .
حدثنا
بشر بن هلال الصواف ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15634جعفر بن سليمان الضبعي ، قال : ثنا
علي بن [ ص: 632 ] زيد بن جدعان ، قال : خرج
عبد الله بن الحارث من الدار ، ودخل المقصورة ; فلما خرج منها ، جلس وتساند عليها ، وجلسنا إليه ، فذكر
سليمان بن داود (
قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ) . . . إلى قوله : (
إن ربي غني كريم ) ثم سكت عن ذكر
سليمان ، فقال : (
إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ) وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكر الله في كتابه (
ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) ، (
قال إنما أوتيته على علم عندي ) قال : وعادى
موسى ، وكان مؤذيا له ، وكان
موسى يصفح عنه ويعفو ، للقرابة ، حتى بنى دارا ، وجعل باب داره من ذهب ، وضرب على جدرانه صفائح الذهب ، وكان الملأ من
بني إسرائيل يغدون عليه ويروحون ، فيطعمهم الطعام ، ويحدثونه ويضحكونه ، فلم تدعه شقوته والبلاء ، حتى أرسل إلى امرأة من
بني إسرائيل مشهورة بالخنا ، مشهورة بالسب ، فأرسل إليها فجاءته ، فقال لها : هل لك أن أمولك وأعطيك ، وأخلطك في نسائي ، على أن تأتيني والملأ من
بني إسرائيل عندي ، فتقولي : يا
قارون ، ألا تنهى عني
موسى ، قالت : بلى . فلما جلس
قارون ، وجاء الملأ من
بني إسرائيل ، أرسل إليها ، فجاءت فقامت بين يديه ، فقلب الله قلبها ، وأحدث لها توبة ، فقالت في نفسها : لأن أحدث اليوم توبة ، أفضل من أن أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكذب عدو الله له . فقالت : إن
قارون قال لي : هل لك أن أمولك وأعطيك ، وأخلطك بنسائي ، على أن تأتيني والملأ من
بني إسرائيل عندي ، فتقولي : يا
قارون ألا تنهى عني
موسى ، فلم أجد توبة أفضل من أن لا أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكذب عدو الله ; فلما تكلمت بهذا الكلام ، سقط في يدي
قارون ، ونكس رأسه ، وسكت الملأ وعرف أنه قد وقع في هلكة ، وشاع كلامها في الناس ، حتى بلغ
موسى ; فلما بلغ
موسى اشتد غضبه ، فتوضأ من الماء ، وصلى وبكى ، وقال : يا رب عدوك لي مؤذ ، أراد فضيحتي وشيني ، يا رب سلطني عليه . فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك . فجاء
موسى إلى
قارون ; فلما دخل عليه ، عرف الشر في وجه
موسى له ، فقال : يا
موسى ارحمني ; قال : يا أرض خذيهم ، قال : فاضطربت داره ، وساخت
بقارون وأصحابه إلى الكعبين ، وجعل يقول : يا
موسى ، فأخذتهم إلى ركبهم ، وهو يتضرع إلى
موسى : يا
موسى ارحمني ; قال : يا أرض خذيهم ، قال فاضطربت داره وساخت وخسف
بقارون وأصحابه إلى سررهم ، وهو يتضرع إلى
موسى : يا
موسى ارحمني ; قال : يا أرض خذيهم ، فخسف به وبداره وأصحابه . قال : وقيل
لموسى صلى الله عليه وسلم : يا
موسى [ ص: 633 ] ما أفظك ، أما وعزتي لو إياي نادى لأجبته .
حدثني
بشر بن هلال ، قال : ثنا
جعفر بن سليمان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12107أبي عمران الجوني ، قال : بلغني أنه قيل
لموسى : لا أعبد الأرض لأحد بعدك أبدا .
حدثنا
ابن وكيع ، قال : ثنا
عبد الرحمن بن مهدي ،
وعبد الحميد الحماني ، عن
سفيان ، عن
الأغر بن الصباح ، عن
خليفة بن حصين ، قال
عبد الحميد ، عن
أبي نصر ، عن
ابن عباس ، ولم يذكر
ابن مهدي أبا نصر (
فخسفنا به وبداره الأرض ) قال : الأرض السابعة .
حدثنا
القاسم ، قال : ثنا
الحسين ، قال : ثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : بلغنا أنه يخسف به كل يوم مائة قامة ، ولا يبلغ أسفل الأرض إلى يوم القيامة ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
حدثنا
ابن وكيع ، قال : ثنا
زيد بن حبان ، عن
جعفر بن سليمان ، قال : سمعت
مالك بن دينار ، قال : بلغني أن
قارون يخسف به كل يوم مائة قامة .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
فخسفنا به وبداره الأرض ) ذكر لما أنه يخسف به كل يوم قامة ، وأنه يتجلجل فيها ، لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة .
وقوله : (
فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ) يقول : فلم يكن له جند يرجع إليهم ، ولا فئة ينصرونه لما نزل به من سخطه ، بل تبرءوا منه .
(
وما كان من المنتصرين ) يقول : ولا كان هو ممن ينتصر من الله إذا أحل به نقمته ، فيمتنع لقوته منها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة : (
فما كان له من فئة ينصرونه ) أي جند ينصرونه ، وما عنده منعة يمتنع بها من الله .
وقد بينا معنى الفئة فيما مضى وأنها الجماعة من الناس ، وأصلها الجماعة التي يفيء إليها الرجل عند الحاجة إليهم ، للعون على العدو ، ثم تستعمل ذلك
العرب في كل جماعة كانت عونا للرجل ، وظهرا له ; ومنه قول
خفاف :
فلم أر مثلهم حيا لقاحا وجدك بين ناضحة وحجر أشد على صروف الدهر آدا
وأكبر منهم فئة بصبر