القول في تأويل قوله تعالى : ( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ( 6 )
الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ( 7 )
ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ( 8 ) )
[ ص: 170 ]
يقول - تعالى ذكره - : هذا الذي يفعل ما وصفت لكم في هذه الآيات ، هو ( عالم الغيب ) ، يعني عالم ما يغيب عن أبصاركم أيها الناس ، فلا تبصرونه مما تكنه الصدور وتخفيه النفوس ، وما لم يكن بعد مما هو كائن ، ( والشهادة ) يعني : ما شاهدته الأبصار فأبصرته وعاينته وما هو موجود ( العزيز ) يقول : الشديد في انتقامه ممن كفر به ، وأشرك معه غيره ، وكذب رسله ( الرحيم ) بمن تاب من ضلالته ، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله ، والعمل بطاعته ، أن يعذبه بعد التوبة .
وقوله : (
الذي أحسن كل شيء خلقه ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض
قراء مكة والمدينة والبصرة (
أحسن كل شيء خلقه ) بسكون اللام . وقرأه بعض
المدنيين وعامة
الكوفيين (
أحسن كل شيء خلقه ) بفتح اللام .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء صحيحتا المعنى ، وذلك أن الله أحكم خلقه ، وأحكم كل شيء خلقه ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أتقن كل شيء وأحكمه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
العباس بن أبي طالب قال : ثنا
الحسين بن إبراهيم إشكاب قال : ثنا
شريك ، عن
خصيف عن
عكرمة ، عن
ابن عباس في قوله : (
الذي أحسن كل شيء خلقه ) قال : أما إن است القرد ليست بحسنة ، ولكن أحكم خلقها .
حدثنا
ابن وكيع قال : ثنا
أبو النضر قال : ثنا
أبو سعيد المؤدب ، عن
خصيف ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس ، أنه كان يقرؤها : (
الذي أحسن كل شيء خلقه ) قال : أما إن است القرد ليست بحسنة ولكنه أحكمها .
[ ص: 171 ]
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
أحسن كل شيء خلقه ) قال : أتقن كل شيء خلقه .
حدثني
محمد بن عمارة قال : ثنا
عبد الله بن موسى قال : ثنا
إسرائيل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
أحسن كل شيء ) : أحصى كل شيء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذي حسن خلق كل شيء .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
الذي أحسن كل شيء خلقه ) حسن على نحو ما خلق .
وذكر عن
الحجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13724الأعرج ، عن
مجاهد قال : هو مثل (
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) قال : فلم يجعل خلق البهائم في خلق الناس ، ولا خلق الناس في خلق البهائم ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أعلم كل شيء خلقه ، كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه ، وأن قوله : ( أحسن ) إنما هو من قول القائل : فلان يحسن كذا ، إذا كان يعلمه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن وكيع قال : ثنا أبي ، عن
شريك ، عن
خصيف ، عن
مجاهد (
أحسن كل شيء خلقه ) قال : أعطى كل شيء خلقه ، قال : الإنسان إلى الإنسان ، والفرس للفرس ، والحمار للحمار وعلى هذا القول الخلق والكل منصوبان بوقوع أحسن عليهما .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه : (
الذي أحسن كل شيء خلقه ) بفتح اللام قول من قال : معناه أحكم وأتقن ؛ لأنه لا معنى لذلك إذ قرئ كذلك إلا أحد وجهين : إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان ، أو معنى التحسين الذي هو في معنى الجمال والحسن ، فلما كان في خلقه ما لا يشك في قبحه وسماجته ، علم أنه لم يعن به أنه أحسن كل ما خلق ، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته ، وأما على القراءة الأخرى التي هي بتسكين اللام ، فإن أولى تأويلاته به قول من قال : معنى ذلك : أعلم وألهم كل شيء خلقه ، هو أحسنهم ، كما قال : (
الذي أعطى كل شيء [ ص: 172 ] خلقه ثم هدى ) ؛ لأن ذلك أظهر معانيه . وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه بمعنى : الذي أحسن خلق كل شيء ، فإنه جعل الخلق نصبا بمعنى التفسير ، كأنه قال : الذي أحسن كل شيء خلقا منه . وقد كان بعضهم يقول : هو من المقدم الذي معناه التأخير ، ويوجهه إلى أنه نظير قول الشاعر :
وظعني إليك لليل حضنيه أنني لتلك إذا هاب الهدان فعول
يعني : وظعني حضني الليل إليك ؛ ونظير قول الآخر :
كأن هندا ثناياها وبهجتها يوم التقينا على أدحال دباب
أي : كأن ثنايا هند وبهجتها .
وقوله : (
وبدأ خلق الإنسان من طين ) يقول - تعالى ذكره - : وبدأ خلق آدم من طين (
ثم جعل نسله ) يعني : ذريته ( من سلالة ) ، يقول : من الماء الذي انسل فخرج منه . وإنما يعني من إراقة من مائه ، كما قال الشاعر :
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا سلالة فرج كان غير حصين
وقوله : (
من ماء مهين ) يقول : من نطفة ضعيفة رقيقة .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
[ ص: 173 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وبدأ خلق الإنسان من طين ) وهو خلق
آدم ، ثم جعل نسله : أي ذريته من سلالة من ماء مهين ، والسلالة هي : الماء المهين الضعيف .
حدثني
أبو السائب قال : ثنا
أبو معاوية ، عن
الأعمش ، عن
المنهال ، عن
أبي يحيى الأعرج ، عن
ابن عباس في قوله : ( من سلالة ) قال : صفو الماء .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
من ماء مهين ) قال : ضعيف نطفة الرجل ، ومهين : فعيل من قول القائل : مهن فلان ، وذلك إذا زل وضعف .