صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون [ ص: 178 ] ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ( 16 ) )

يقول - تعالى ذكره - : تتنحى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله ، الذين وصفت صفتهم ، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمنامهم ، ولا ينامون ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) في عفوه عنهم ، وتفضله عليهم برحمته ومغفرته ( ومما رزقناهم ينفقون ) في سبيل الله ، ويؤدون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه . وتتجافى : تتفاعل من الجفاء ، والجفاء : النبو ، كما قال الراجز :


وصاحبي ذات هباب دمشق وابن ملاط متجاف أرفق



يعني : أن كرمها سجية عن ابن ملاط ، وإنما وصفهم - تعالى ذكره - بتجافي جنوبهم عن المضاجع ؛ لتركهم الاضطجاع للنوم شغلا بالصلاة .

واختلف أهل التأويل في الصلاة التي وصفهم جل ثناؤه ، أن جنوبهم تتجافى لها عن المضطجع ، فقال بعضهم : هي الصلاة بين المغرب والعشاء ، وقال : نزلت هذه الآية في قوم كانوا يصلون في ذلك الوقت .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن أبي عروبة قال : قال قتادة ، قال أنس في قوله : ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) قال : كانوا يتنفلون فيما بين [ ص: 179 ] المغرب والعشاء ، وكذلك ( تتجافى جنوبهم ) قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس في قوله : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : يصلون ما بين هاتين الصلاتين .

حدثني علي بن سعيد الكندي قال : ثنا حفص بن غياث ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : ما بين المغرب والعشاء .

حدثني محمد بن خلف قال : ثنا يزيد بن حيان قال : ثنا الحارث بن وجيه الراسبي قال : ثنا مالك بن دينار ، عن أنس بن مالك ، أن هذه الآية نزلت في رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا محمد بن بشر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : كانوا يتطوعون فيما بين المغرب والعشاء .

قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن أنس ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : ما بين المغرب والعشاء .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : كانوا يتنفلون ما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء .

وقال آخرون : عنى بها صلاة المغرب .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال : ثني أبي ، عن طلحة ، عن عطاء ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : عن العتمة .

وذكر عن حجاج ، عن ابن جريج قال : قال يحيى بن صيفي ، عن أبي سلمة قال : العتمة .

وقال آخرون : لانتظار صلاة العتمة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الله بن أبي زياد قال : ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي عن [ ص: 180 ] سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن أنس بن مالك ، أن هذه الآية ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة .

وقال آخرون : عنى بها قيام الليل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : قيام الليل .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : هؤلاء المتهجدون لصلاة الليل .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) يقومون يصلون من الليل .

وقال آخرون : إنما هذه صفة قوم لا تخلو ألسنتهم من ذكر الله .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ) : وهم قوم لا يزالون يذكرون الله ، إما في صلاة ، وإما قياما ، وإما قعودا ، وإما إذا استيقظوا من منامهم ، هم قوم لا يزالون يذكرون الله .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) إلى آخر الآية ، يقول : تتجافى لذكر الله ، كلما استيقظوا ذكروا الله ، إما في الصلاة ، وإما في قيام ، أو في قعود ، أو على جنوبهم ، فهم لا يزالون يذكرون الله .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم ، شغلا منهم بدعاء ربهم وعبادته خوفا وطمعا ، وذلك نبو جنوبهم عن المضاجع ليلا ؛ لأن المعروف من وصف الواصف رجلا بأن جنبه نبا عن مضجعه ، إنما هو وصف منه له بأنه جفا عن النوم في وقت منام الناس المعروف ، وذلك الليل دون النهار ، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك ، يدل على ذلك قول عبد الله [ ص: 181 ] بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه في صفة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - :


يبيت يجافي جنبه عن فراشه     إذا استثقلت بالمشركين المضاجع



فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله - تعالى ذكره - لم يخصص في وصفه هؤلاء القوم بالذي وصفهم به من جفاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال الليل وأوقاته حالا ووقتا دون حال ووقت ، كان واجبا أن يكون ذلك على كل آناء الليل وأوقاته . وإذا كان كذلك كان من صلى ما بين المغرب والعشاء ، أو انتظر العشاء الآخرة ، أو قام الليل أو بعضه ، أو ذكر الله في ساعات الليل ، أو صلى العتمة ممن دخل في ظاهر قوله : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) لأن جنبه قد جفا عن مضجعه في الحال التي قام فيها للصلاة قائما صلى أو ذكر الله ، أو قاعدا بعد أن لا يكون مضطجعا ، وهو على القيام أو القعود قادر ، غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن توجيه الكلام إلى أنه معني به قيام الليل أعجب إلي ؛ لأن ذلك أظهر معانيه ، والأغلب على ظاهر الكلام ، وبه جاء الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وذلك ما حدثنا به ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن الحكم قال : سمعت عروة بن الزبير يحدث عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تكفر الخطيئة ، وقيام العبد في جوف الليل " وتلا هذه الآية ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) " .

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا يحيى بن حماد قال : ثنا أبو أسامة ، عن سليمان ، عن حبيب بن أبي ثابت والحكم ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بنحوه .

حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال : ثنا آدم قال : ثنا سفيان قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن الحكم بن عتيبة ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل ، [ ص: 182 ] قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن شئت أنبأتك بأبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تكفر الخطيئة ، وقيام الرجل في جوف الليل " ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا يزيد بن حيان ، عن حماد بن سلمة قال : ثنا عاصم بن أبي النجود ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) قال : " قيام العبد من الليل " .

حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال : ثني أبي ، قال : ثني زياد بن خيثمة ، عن أبي يحيى بائع القت ، عن مجاهد قال : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل ، ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه ، فقال : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) .

وأما قوله : ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) الآية ، فإن بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) قال : خوفا من عذاب الله ، وطمعا في رحمة الله ، ومما رزقناهم ينفقون في طاعة الله ، وفي سبيله .

التالي السابق


الخدمات العلمية