القول في تأويل قوله تعالى : (
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ( 13 )
ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ( 14 ) )
يعني - تعالى ذكره - بقوله : (
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم ) وإذ قال بعضهم : يا أهل
يثرب ، ويثرب : اسم أرض ، فيقال : إن مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية من
يثرب . وقوله : ( لا مقام لكم فارجعوا ) بفتح الميم من مقام . يقول : لا مكان لكم ، تقومون فيه ، كما قال الشاعر :
فأيي ما وأيك كان شرا فقيد إلى المقامة لا يراها
قوله : ( فارجعوا ) يقول : فارجعوا إلى منازلكم ، أمرهم بالهرب من عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والفرار منه ، وترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : إن ذلك من قيل
أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : ثني
يزيد بن رومان (
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب ) إلى ( فرارا ) يقول :
أوس بن قيظي ومن كان على ذلك من رأيه من قومه ، والقراءة على فتح الميم من قوله : ( لا مقام لكم ) بمعنى : لا موضع قيام لكم ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القراء
[ ص: 226 ] عليها . وذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=12067أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك ( لا مقام لكم ) بضم الميم ؛ يعني : لا إقامة لكم .
وقوله : (
ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ) يقول - تعالى ذكره - : ويستأذن بعضهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإذن بالانصراف عنه إلى منزله ، ولكنه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : (
ويستأذن فريق منهم النبي ) إلى قوله : ( إلا فرارا ) قال : هم
بنو حارثة ، قالوا : بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله : (
إن بيوتنا عورة ) قال : نخشى عليها السرق .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ) وإنها مما يلي العدو ، وإنا نخاف عليها السراق ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يجد بها عدوا ، قال الله : (
إن يريدون إلا فرارا ) يقول : إنما كان قولهم ذلك (
إن بيوتنا عورة ) إنما كان يريدون بذلك الفرار .
حدثنا
محمد بن سنان القزاز قال : ثنا
عبيد الله بن حمران قال : ثنا
عبد السلام بن شداد أبو طالوت عن أبيه في هذه الآية (
إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ) قال : ضائعة .
وقوله : (
ولو دخلت عليهم من أقطارها ) يقول : ولو دخلت
المدينة على هؤلاء القائلين (
إن بيوتنا عورة ) من أقطارها ، يعني : من جوانبها ونواحيها ، واحدها : قطر ، وفيها لغة أخرى : قتر ، وأقتار ، ومنه قول الراجز :
إن شئت أن تدهن أو تمرا فولهن قترك الأشرا
[ ص: 227 ]
وقوله : (
ثم سئلوا الفتنة ) يقول : ثم سئلوا الرجوع من الإيمان إلى الشرك ( لآتوها ) يقول : لفعلوا ورجعوا عن الإسلام وأشركوا . وقوله : (
وما تلبثوا بها إلا يسيرا ) يقول : وما احتبسوا عن إجابتهم إلى الشرك إلا يسيرا قليلا ولأسرعوا إلى ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
ولو دخلت عليهم من أقطارها ) أي : لو دخل عليهم من نواحي المدينة (
ثم سئلوا الفتنة ) : أي : الشرك ( لآتوها ) يقول : لأعطوها . (
وما تلبثوا بها إلا يسيرا ) يقول : إلا أعطوه طيبة به أنفسهم ما يحتبسونه .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
ولو دخلت عليهم من أقطارها ) يقول : لو دخلت
المدينة عليهم من نواحيها (
ثم سئلوا الفتنة لآتوها ) سئلوا أن يكفروا لكفروا . قال : وهؤلاء المنافقون لو دخلت عليهم الجيوش ، والذين يريدون قتالهم ، ثم سئلوا أن يكفروا لكفروا . قال : والفتنة : الكفر ، وهي التي يقول الله : (
الفتنة أشد من القتل ) أي : الكفر . يقول : يحملهم الخوف منهم ، وخبث الفتنة التي هم عليها من النفاق على أن يكفروا به .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( لآتوها ) فقرأ ذلك عامة
قراء المدينة وبعض
قراء مكة : ( لأتوها ) بقصر الألف ، بمعنى جاءوها . وقرأه بعض
المكيين وعامة
قراء الكوفة والبصرة : ( لآتوها ) بمد الألف ، بمعنى : لأعطوها ، لقوله : (
ثم سئلوا الفتنة ) . وقالوا : إذا كان سؤال كان إعطاء . والمد أعجب القراءتين إلي لما ذكرت ، وإن كانت الأخرى جائزة .