القول في تأويل قوله تعالى : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ( 23 )
ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ( 24 ) )
يقول - تعالى ذكره - (
من المؤمنين ) بالله ورسوله (
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) يقول : أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضراء ، وحين البأس (
فمنهم من قضى نحبه ) يقول : فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له على نفسه ، فاستشهد بعض يوم
بدر ، وبعض يوم
أحد ، وبعض في غير ذلك من المواطن (
ومنهم من ينتظر ) قضاءه والفراغ منه ، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده ، والنصر من الله ، والظفر على عدوه . والنحب : النذر في كلام العرب . وللنحب أيضا في كلامهم وجوه غير ذلك ، منها الموت ، كما قال الشاعر :
قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر
يعني : منيته ونفسه ؛ ومنها الخطر العظيم ، كما قال
جرير :
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب
[ ص: 238 ]
أي على خطر عظيم ؛ ومنها النحيب ، يقال : نحب في سيره يومه أجمع : إذا مد فلم ينزل يومه وليلته ؛ ومنها التنحيب ، وهو الخطار ، كما قال الشاعر :
وإذ نحبت كلب على الناس أيهم أحق بتاج الماجد المتكوم ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : ثني
يزيد بن رومان (
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) : أي : وفوا الله بما عاهدوه عليه (
فمنهم من قضى نحبه ) أي فرغ من عمله ، ورجع إلى ربه ، كمن استشهد يوم
بدر ويوم
أحد (
ومنهم من ينتظر ) ما وعد الله من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ؛ وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
فمنهم من قضى نحبه ) قال : عهده فقتل أو عاش (
ومنهم من ينتظر ) يوما فيه جهاد ، فيقضي ( نحبه ) عهده ، فيقتل أو يصدق في لقائه .
حدثنا
ابن وكيع قال : ثنا
ابن عيينة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد (
فمنهم من قضى نحبه ) قال : عهده (
ومنهم من ينتظر ) قال : يوما فيه قتال ، فيصدق في اللقاء .
قال : ثنا أبي ،
عن سفيان ، عن
مجاهد (
فمنهم من قضى نحبه ) قال : مات على العهد .
قال : ثنا
أبو أسامة ، عن
عبد الله بن فلان - قد سماه ، ذهب عني اسمه - عن أبيه (
فمنهم من قضى نحبه ) قال : نذره .
حدثنا
ابن إدريس ، عن
طلحة بن يحيى ، عن عمه
nindex.php?page=showalam&ids=16745عيسى بن طلحة : nindex.php?page=hadith&LINKID=3502081أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله : من الذين قضوا نحبهم ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ودخل طلحة من باب المسجد وعليه ثوبان أخضران ، فقال : " هذا من الذين قضوا نحبهم " . [ ص: 239 ]
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
هوذة قال : ثنا
عوف ، عن
الحسن ، في قوله : (
فمنهم من قضى نحبه ) قال : موته على الصدق والوفاء . (
ومنهم من ينتظر ) الموت على مثل ذلك ، ومنهم من بدل تبديلا .
حدثني
محمد بن عمارة قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16527عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا
إسرائيل ، عن
سعيد بن مسروق ، عن
مجاهد (
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ) قال : النحب : العهد .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ) على الصدق والوفاء (
ومنهم من ينتظر ) من نفسه الصدق والوفاء .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
فمنهم من قضى نحبه ) قال : مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان (
ومنهم من ينتظر ) ذلك .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
ابن أبي بكير قال :
nindex.php?page=showalam&ids=16101شريك بن عبد الله ، أخبرناه عن
سالم ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
فمنهم من قضى نحبه ) قال : الموت على ما عاهد الله عليه (
ومنهم من ينتظر ) الموت على ما عاهد الله عليه .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا الله أن يفوا قتالا للمشركين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمنهم من أوفى فقضى نحبه ، ومنهم من بدل ، ومنهم من أوفى ولم يقض نحبه ، وكان منتظرا ، على ما وصفهم الله به من صفاتهم في هذه الآية .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
عمرو بن علي قال : ثنا
عبد الرحمن بن مهدي قال : ثنا
حماد بن سلمة ، عن
ثابت ، عن
أنس ، أن
أنس بن النضر تغيب عن قتال
بدر ، فقال : تغيبت عن أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لئن رأيت قتالا ليرين الله ما أصنع ؛ فلما كان يوم
أحد ، وهزم الناس ، لقي
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ فقال : والله إني لأجد ريح الجنة ، فتقدم
[ ص: 240 ] فقاتل حتى قتل ، فنزلت فيه هذه الآية : (
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ) .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
عبد الله بن بكير قال : ثنا
حميد قال : زعم
أنس بن مالك قال : غاب
أنس بن النضر ، عن قتال يوم
بدر ، فقال : غبت عن قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين ، لئن أشهدني الله قتالا ليرين الله ما أصنع ؛ فلما كان يوم
أحد ، انكشف المسلمون ، فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني : المسلمين ، فمشى بسيفه ، فلقيه
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ ، فقال : أي
سعد ، إني لأجد ريح الجنة دون أحد ، فقال
سعد : يا رسول الله ، فما استطعت أن أصنع ما صنع ، قال
أنس بن مالك : فوجدناه بين القتلى ، به بضع وثمانون جراحة ، بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه ، قال
أنس : فكنا نتحدث أن هذه الآية (
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ) نزلت فيه ، وفي أصحابه .
حدثنا
سوار بن عبد الله قال : ثنا
المعتمر قال : سمعت
حميدا يحدث ، عن
أنس بن مالك ، أن
أنس بن النضر : غاب عن قتال
بدر ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا
أبو كريب قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17416يونس بن بكير قال : ثنا
طلحة بن يحيى ، عن
موسى وعيسى بن طلحة عن
طلحة nindex.php?page=hadith&LINKID=811723أن أعرابيا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : وكانوا لا يجرءون على مسألته ، فقالوا للأعرابي : سله ( من قضى نحبه ) من هو ؟ فسأله ، فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ثم دخلت من باب المسجد وعلي ثياب خضر ؛ فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أين السائل عمن قضى نحبه ؟ " قال الأعرابي : أنا يا رسول الله قال : " هذا ممن قضى نحبه " .
حدثنا
أبو كريب قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12194عبد الحميد الحماني ، عن
إسحاق بن يحيى الطلحي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17176موسى بن طلحة قال : قام
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية بن أبي سفيان ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810903 " طلحة ممن قضى نحبه " .
حدثني
محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال : ثنا
سليمان بن أيوب قال : ثني أبي ، عن
إسحاق ، عن
يحيى بن طلحة ، عن عمه
nindex.php?page=showalam&ids=17176موسى بن طلحة ، عن أبيه
طلحة قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=812468لما قدمنا من أحد وصرنا بالمدينة ، صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر ، فخطب الناس [ ص: 241 ] وعزاهم ، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر ، ثم قرأ : ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) الآية ، قال : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ فالتفت وعلي ثوبان أخضران ، فقال : " أيها السائل هذا منهم " .
وقوله : (
وما بدلوا تبديلا ) : وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييرا ، كما غيره المعوقون القائلون لإخوانهم : هلم إلينا ، والقائلون : إن بيوتنا عورة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وما بدلوا تبديلا ) يقول : ما شكوا وما ترددوا في دينهم ، ولا استبدلوا به غيره .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
وما بدلوا تبديلا ) : لم يغيروا دينهم كما غير المنافقون .
وقوله : (
ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) يقول - تعالى ذكره - (
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) : يقول : ليثيب الله أهل الصدق بصدقهم الله بما عاهدوه عليه ، ووفائهم له به (
ويعذب المنافقين إن شاء ) بكفرهم بالله ونفاقهم (
أو يتوب عليهم ) من نفاقهم ، فيهديهم للإيمان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ) يقول : إن شاء أخرجهم من النفاق إلى الإيمان .
إن قال قائل : ما وجه الشرط في قوله : (
ويعذب المنافقين ) بقوله : ( إن شاء ) والمنافق كافر وهل يجوز أن لا يشاء تعذيب المنافق ، فيقال : ويعذبه إن شاء ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته . وإنما معنى ذلك : ويعذب المنافقين بأن لا يوفقهم للتوبة من نفاقهم حتى يموتوا على كفرهم إن شاء ، فيستوجبوا بذلك العذاب ، فالاستثناء إنما هو من التوفيق لا من العذاب إن ماتوا على نفاقهم .
وقد بين ما قلنا في ذلك قوله : (
أو يتوب عليهم ) فمعنى الكلام إذن : ويعذب المنافقين إذ لم يهدهم للتوبة ، فيوفقهم لها ، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم .
[ ص: 242 ]
وقوله : (
إن الله كان غفورا رحيما ) يقول : إن الله كان ذا ستر على ذنوب التائبين ، رحيما بالتائبين أن يعاقبهم بعد التوبة .