القول في
تأويل قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا )
قال
أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا" ، واذكروا إذ قال
إبراهيم : رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا .
قال
أبو جعفر : يعني بقوله : "آمنا" : آمنا من الجبابرة وغيرهم ، أن يسلطوا
[ ص: 45 ] عليه ، ومن عقوبة الله أن تناله ، كما تنال سائر البلدان ، من خسف ، وائتفاك ، وغرق ، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره ، كما :
2026 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قال : ذكر لنا أن الحرم حرم بحياله إلى العرش . وذكر لنا أن البيت هبط مع
آدم حين هبط . قال الله له : أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي . فطاف حوله
آدم ومن كان بعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمان الطوفان - حين أغرق الله قوم
نوح - رفعه وطهره ، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض . فتتبع منه
إبراهيم أثرا ، فبناه على أساس قديم كان قبله .
فإن قال لنا قائل : أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل
إبراهيم ربه له الأمان ؟
قيل له : لقد اختلف في ذلك . فقال بعضهم : لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه ، منذ خلقت السماوات والأرض . واعتلوا في ذلك بما : -
2027 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17416يونس بن بكير ، عن
محمد بن إسحاق قال : حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=15985سعيد بن أبي سعيد المقبري ، قال سمعت
أبا شريح الخزاعي يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810064لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : "يا أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، أو يعضد بها شجرا . ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي ، [ ص: 46 ] ولم تحل لي إلا هذه الساعة ، غضبا على أهلها . ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس . ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فمن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا : إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك " .
2028 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
عبد الرحيم بن سليمان - وحدثنا
ابن حميد nindex.php?page=showalam&ids=13631وابن وكيع قالا حدثنا
جرير - جميعا ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17347يزيد بن أبي زياد ، عن
مجاهد ، عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811925قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمكة حين افتتحها : "هذه حرم حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، وخلق الشمس والقمر ، ووضع هذين الأخشبين ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، أحلت لي ساعة من نهار .
[ ص: 47 ]
قالوا :
فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة . قالوا : وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها . قالوا : ولم يسأل
إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة ، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط ، وأن يرزق ساكنه من الثمرات ، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله : "
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قالوا : وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته ، وهو غير ذي زرع ولا ضرع ، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا ، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه .
قالوا : وكيف يجوز أن يكون
إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم ، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه ، وهو القائل - حين حله ، ونزله بأهله وولده : (
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) [ سورة إبراهيم : 37 ] ؟ قالوا : فلو كان
إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه
[ ص: 48 ] تحريمه لما قال : "عند بيتك المحرم" عند نزوله به ، ولكنه حرم قبله ، وحرم بعده .
وقال آخرون : كان الحرم حلالا قبل دعوة
إبراهيم كسائر البلاد غيره ، وإنما صار حراما بتحريم
إبراهيم إياه ، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها . قالوا : والدليل على ما قلنا من ذلك ، ما : -
2029 - حدثنا به
ابن بشار قال : حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11862أبي الزبير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=810065 "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، لا يصاد صيدها ، ولا تقطع عضاهها .
2030 - حدثنا
أبو كريب وأبو السائب قالا [ حدثنا
ابن إدريس - وأخبرنا
أبو كريب قال ] ، حدثنا
عبد الرحيم الرازي ، [ قالا جميعا ] : سمعنا
أشعث ، عن
نافع ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811259إن إبراهيم كان عبد الله وخليله ، وإني عبد الله ورسوله ، وإن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، عضاهها وصيدها ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير .
[ ص: 49 ]
2031 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
قتيبة بن سعيد قال : حدثنا
بكر بن مضر ، عن
ابن الهاد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11949أبي بكر بن محمد ، عن
عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن
رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810066 "إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها .
[ ص: 50 ]
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب .
قالوا : "وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن
إبراهيم قال : "رب اجعل هذا بلدا آمنا" ، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض ، فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك ، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها . قالوا : وأما خبر
أبي شريح nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، فخبران لا تثبت بهما حجة ، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله تعالى ذكره جعل
مكة حرما حين خلقها وأنشأها ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه حرمها يوم خلق السماوات والأرض" ، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله ، ولكن بمنعه من أرادها بسوء ، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات ، وعن ساكنيها ، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات . فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله
إبراهيم خليله ، وأسكن بها أهله هاجر وولده
إسماعيل . فسأل حينئذ
إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه ، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه ، يستنون به فيها ، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله ، للناس إماما يقتدى به ، فأجابه ربه إلى ما سأله ، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه ،
فصارت
مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها ، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده ، ومحرمة بدفع الله عنها ، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام ، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها ، واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ
إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم .
[ ص: 51 ]
فلذلك أضيف تحريمها إلى
إبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله حرم
مكة " . لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك - كان عن مسألة
إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه ، [ وهو الذي ] لزم العباد فرضه دون غيره .
فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر
أبي شريح nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "وإن الله حرم
مكة يوم خلق الشمس والقمر" - وخبر
جابر nindex.php?page=showalam&ids=3وأبى هريرة nindex.php?page=showalam&ids=46ورافع بن خديج وغيرهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم إن
إبراهيم حرم
مكة " ؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر ، كما ظنه بعض الجهال .
وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا ، إذا ثبت صحتها . وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه .
وأما قول
إبراهيم عليه السلام (
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) [ سورة إبراهيم : 37 ] فإنه ، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه ، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته ، من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا في ذلك .