القول في تأويل قوله تعالى : (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ( 72 ) )
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إن الله عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت ، وإن ضيعت عوقبت ، فأبت حملها شفقا منها أن لا تقوم بالواجب عليها ، وحملها
آدم (
إنه كان ظلوما ) لنفسه ( جهولا ) بالذي فيه الحظ له .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا
هشيم ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير في قوله (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) قال : الأمانة : الفرائض التي افترضها الله على العباد .
[ ص: 337 ] قال : ثنا
هشيم ، عن
العوام ، عن
الضحاك بن مزاحم ، عن
ابن عباس في قوله (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ) قال : الأمانة الفرائض التي افترضها الله على عباده .
قال : ثنا
هشيم ، قال أخبرنا
العوام بن حوشب ، و
جويبر كلاهما عن
الضحاك ، عن
ابن عباس في قوله ( إنا عرضنا الأمانة . . . ) إلى قوله : ( جهولا ) قال : الأمانة الفرائض . قال
جويبر في حديثه : فلما عرضت على
آدم قال : أي رب وما الأمانة؟ قال : قيل : إن أديتها جزيت ، وإن ضيعتها عوقبت قال : أي رب حملتها بما فيها قال : فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية ، فأخرج منها .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
محمد بن جعفر قال : ثنا
شعبة ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد ، عن
ابن عباس أنه قال في هذه الآية (
إنا عرضنا الأمانة ) قال : عرضت على
آدم ، فقال : خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك وإن عصيت عذبتك قال : قد قبلت ، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة .
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله : (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك ، وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على
آدم فقبلها بما فيها ، وهو قوله : (
وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) غرا بأمر الله .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبى قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله (
إنا عرضنا الأمانة ) : الطاعة عرضها عليها قبل أن يعرضها على
آدم ، فلم تطقها ، فقال
لآدم : يا
آدم ، إني قد عرضت الأمانة على السماوات
[ ص: 338 ] والأرض والجبال ، فلم تطقها ، فهل أنت آخذها بما فيها؟ فقال : يا رب : وما فيها؟ قال : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ، فأخذها
آدم فتحملها فذلك قوله (
وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
أبو أحمد الزبيري قال : ثنا
سفيان ، عن رجل ، عن
الضحاك بن مزاحم في قوله (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) قال :
آدم قيل له خذها بحقها قال وما حقها؟ قيل : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ، فما لبث ما بين الظهر والعصر حتى أخرج منها .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد قال سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) فلم يطقن حملها فهل أنت يا
آدم آخذها بما فيها؟ قال
آدم وما فيها يا رب؟ قال : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فقال : تحملتها ، فقال الله تبارك وتعالى : قد حملتكها ، فما مكث
آدم إلا مقدار ما بين الأولى إلى العصر حتى أخرجه إبليس لعنه الله من الجنة ، والأمانة الطاعة .
حدثني
سعيد بن عمرو السكوني قال : ثنا
بقية قال : ثني
عيسى بن إبراهيم ، عن
موسى بن أبي حبيب ، عن
الحكم بن عمرو ، وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء ، فأرسلوا به ; فمنهم رسول الله ، ومنهم نبي ، ومنهم نبي رسول ، نزل القرآن وهو كلام الله ، ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا أمر القرآن ، وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون ومما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينه لهم ، فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن من القبيح . ثم الأمانة أول شيء يرفع ، ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس ، ثم يرفع الوفاء ، والعهد ، والذمم ، وتبقى الكتب ; فعالم يعمل ، وجاهل يعرفها وينكرها حتى وصل إلي وإلى أمتي فلا يهلك على الله إلا هالك ، ولا يغفله إلا تارك ، والحذر [ ص: 339 ] أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ، وإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا " .
حدثني
محمد بن خلف العسقلاني قال : ثنا
عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال : ثنا
العوام العطار قال : ثنا
قتادة ، وأبان بن أبي عياش ، عن
خليد العصري ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810938قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن ، وركوعهن ، وسجودهن ، ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها " وكان يقول : وأيم الله ، لا يفعل ذلك إلا مؤمن ، وصام رمضان ، وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا ، وأدى الأمانة ، قالوا : يا أبا الدرداء ، وما الأمانة؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
عبد الرحمن قال : ثنا
سفيان ، عن
الأعمش ، عن
أبي الضحى ، عن
مسروق ، عن
أبي بن كعب قال : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها .
حدثني
يونس قال : ثنا
ابن وهب قال :
قال ابن زيد في قول الله ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) قال : إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ، ويجعل لهن ثوابا وعقابا ، ويستأمنهن على الدين ، فقلن : لا ، نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ، ولا عقابا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وعرضها الله على آدم ، فقال : بين أذني وعاتقي " . قال ابن زيد فقال الله له : أما إذ تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابا إذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك ، فأرخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك بابا وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسا ، فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) يعني به : الدين والفرائض والحدود (
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) قيل لهن : احملنها تؤدين حقها؟ فقلن : لا
[ ص: 340 ] نطيق ذلك (
وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) قيل له : أتحملها؟ قال : نعم ، قيل : أتؤدي حقها؟ قال : نعم ، قال الله : إنه كان ظلوما جهولا عن حقها .
وقال آخرون : بل عنى بالأمانة في هذا الموضع : أمانات الناس .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
تميم بن المنتصر قال : ثنا
إسحاق ، عن
شريك ، عن
الأعمش ، عن
عبد الله بن السائب ، عن
زاذان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=812489 " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ، أو قال : يكفر كل شيء إلا الأمانة ; يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أد أمانتك ، فيقول : أي رب وقد ، ذهبت الدنيا ، ثلاثا . فيقال : اذهبوا به إلى الهاوية ، فيذهب به إليها ، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها ، فيجدها هناك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم ، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت ، فهوى في أثرها أبد الآبدين " . قالوا : والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع ، فلقيت البراء ، فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال : صدق .
قال
شريك ، وثني
عياش العامري ، عن
زاذان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه ، لم يذكر الأمانة في الصلاة وفي كل شيء .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد : أخبرني ،
عمرو بن الحارث ، عن
ابن أبي هلال ، عن
أبي حازم قال : إن الله عرض الأمانة على سماء الدنيا ، فأبت ، ثم التي تليها حتى فرغ منها ، ثم الأرضين ، ثم الجبال ، ثم عرضها على
آدم فقال : نعم ، بين أذني وعاتقي . فثلاث آمرك بهن فإنهن لك عون : إني جعلت لك لسانا بين لحيين فكفه عن كل شيء نهيتك عنه ، وجعلت لك فرجا وواريته
[ ص: 341 ] فلا تكشفه إلى ما حرمت عليك .
وقال آخرون : بل ذلك إنما عنى به ائتمان
آدم ابنه
قابيل على أهله وولده ، وخيانة
قابيل أباه في قتله أخاه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
موسى بن هارون قال : ثنا
عمرو بن حماد قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في خبر ذكره عن
أبي مالك ، وعن
أبي صالح ، عن
ابن عباس ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=17058مرة الهمداني ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كان لا يولد
لآدم مولود إلا ولد معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له اثنان ، يقال لهما :
قابيل ، وهابيل ، وكان
قابيل صاحب زرع ، وكان
هابيل صاحب ضرع ، وكان
قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت
هابيل ، وإن
هابيل طلب أن ينكح أخت
قابيل ، فأبى عليه ، وقال : هي أختي ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوجها ، فأمره أبوه أن يزوجها
هابيل فأبى ، وإنهما قربا قربانا إلى الله أيهما أحق بالجارية ، وكان
آدم يومئذ قد غاب عنهما ، أي
بمكة ينظر إليها ، قال الله
لآدم : يا
آدم ، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض؟ قال : اللهم لاقال : إن لي بيتا
بمكة فأته ، فقال
آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للأرض فأبت ، فقال للجبال فأبت ، فقال
لقابيل فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك ، فلما انطلق
آدم وقربا قربانا ، وكان
قابيل يفخر عليه فيقول : أنا أحق بها منك ; هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصي والدي ، فلما قربا ، قرب
هابيل جذعة سمينة وقرب
قابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها ، فنزلت النار فأكلت قربان
هابيل وتركت قربان
[ ص: 342 ] قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي ، فقال
هابيل (
إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ) إلى قوله (
فطوعت له نفسه قتل أخيه ) فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رءوس الجبال ، وأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنمه في جبل وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات ، وتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن ; فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ، ثم حثا عليه فلما رآه قال : (
يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ) فهو قول الله تبارك وتعالى (
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ) فرجع
آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه فذلك حين يقول (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) إلى آخر الآية .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا : إنه عني بالأمانة في هذا الموضع : جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخص بقوله ( عرضنا الأمانة ) بعض معاني الأمانات لما وصفنا .
وبنحو قولنا قال أهل التأويل في معنى قول الله (
إنه كان ظلوما جهولا ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
موسى قال : ثنا
عمرو قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي (
إنه كان ظلوما جهولا ) يعني قابيل حين حمل أمانة آدم لم يحفظ له أهله .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
أبو أحمد الزبيري قال : ثنا
سفيان ، عن رجل ، عن
الضحاك في قوله (
وحملها الإنسان ) قال : آدم (
إنه كان ظلوما جهولا ) قال : ظلوما لنفسه جهولا فيما احتمل فيما بينه وبين ربه .
حدثنا
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس (
إنه كان ظلوما جهولا ) غر بأمر الله .
[ ص: 343 ] حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
إنه كان ظلوما جهولا ) قال : ظلوما لها يعني الأمانة جهولا عن حقها .