القول في تأويل قوله تعالى : (
فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ( 16 )
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ( 17 ) )
[ ص: 378 ]
يقول - تعالى ذكره - : فأعرضت
سبأ عن طاعة ربها وصدت عن اتباع ما دعتها إليه رسلها من أنه خالقها .
كما حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة قال : ثني
محمد بن إسحاق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه اليماني قال : لقد بعث الله إلى
سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم (
فأرسلنا عليهم سيل العرم ) يقول - تعالى ذكره - : فثقبنا عليهم حين أعرضوا عن تصديق رسلنا سدهم الذي كان يحبس عنهم السيول .
والعرم المسناة التي تحبس الماء ، واحدها عرمة ، وإياه عنى
الأعشى بقوله :
ففي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب عفى عليه العرم رجام بنته لهم حمير
إذا جاء ماؤهم لم يرم
وكان العرم فيما ذكر مما بنته
بلقيس .
[ ص: 379 ] ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12218أحمد بن إبراهيم الدورقي قال : ثني
nindex.php?page=showalam&ids=17282وهب بن جرير قال : ثنا أبي ، قال سمعت
المغيرة بن حكيم قال : لما ملكت
بلقيس ، جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم ، قال فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها ، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها وتركتهم ، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها ، فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت ، فقالوا : لترجعن أو لنقتلنك ، فقالت : إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول ، ولا تطيعونني ، قالوا : فإنا نطيعك ، وإنا لم نجد فينا خيرا بعدك ، فجاءت فأمرت بواديهم ، فسد بالعرم .
قال
أحمد قال :
وهب قال : أبي : فسألت
المغيرة بن حكيم عن العرم ، فقال : هو بكلام
حمير المسناة فسدت ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة ضخمة ، فجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم ، فلما جاء المطر احتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة ، وأمرت بالبعر فألقي فيها فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض ، فلم تزل تضيق تلك الأنهار ، وترسل البعر في الماء حتى خرج جميعا معا ، فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، حتى كان من شأنها وشأن
سليمان ما كان .
حدثنا
أحمد بن عمر البصري قال : ثنا
أبو صالح بن زريق قال : أخبرنا
شريك ، عن
أبي إسحاق ، عن
أبي ميسرة في قوله ( فأرسلنا عليهم سيل العرم ) قال : المسناة بلحن
اليمن .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : ( سيل العرم ) قال : شديد ، وقيل : إن العرم اسم واد كان لهؤلاء القوم .
[ ص: 380 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله ( فأرسلنا عليهم سيل العرم ) قال : واد كان
باليمن ، كان يسيل إلى
مكة ، وكانوا يسقون وينتهي سيلهم إليه .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
فأرسلنا عليهم سيل العرم ) ذكر لنا أن سيل العرم واد كانت تجتمع إليه مسايل من أودية شتى ، فعمدوا فسدوا ما بين الجبلين بالقير والحجارة وجعلوا عليه أبوابا ، وكانوا يأخذون من مائه ما احتاجوا إليه ، ويسدون عنهم ما لم يعنوا به من مائه شيئا .
حدثت عن
الحسين قال سمعت
أبا معاذ يقول أخبرنا
عبيد قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله (
فأرسلنا عليهم سيل العرم ) واد يدعى العرم ، وكان إذا مطر سالت أودية
اليمن إلى العرم ، واجتمع إليه الماء فعمدت
سبأ إلى العرم فسدوا ما بين الجبلين ، فحجزوه بالصخر والقار ، فانسد زمانا من الدهر ، لا يرجون الماء ، يقول : لا يخافون .
وقال آخرون : العرم صفة للمسناة التي كانت لهم وليس باسم لها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله (
سيل العرم ) يقول : الشديد ، وكان السبب الذي سبب الله لإرسال ذلك السيل عليهم فيما ذكر لي جرذا ابتعثه الله على سدهم ، فثقب فيه ثقبا .
ثم اختلف أهل العلم في صفة ما حدث عن ذلك الثقب مما كان فيه خراب جنتيهم .
فقال بعضهم : كان صفة ذلك أن السيل لما وجد عملا في السد عمل فيه ، ثم فاض الماء على جناتهم ; فغرقها وخرب أرضهم وديارهم .
[ ص: 381 ] ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة قال : ثني
محمد بن إسحاق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه اليماني قال : كان لهم ، يعني
لسبإ ، سد ، قد كانوا بنوه بنيانا أبدا ، وهو الذي كان يرد عنهم السيل إذا جاء أن يغشى أموالهم ، وكان فيما يزعمون في علمهم من كهانتهم ، أنه إنما يخرب عليهم سدهم ذلك فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة ، فلما جاء زمانه وما أراد الله بهم من التغريق ، أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها ، حتى استأخرت عنها أي الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها ، فغلغلت في السد فحفرت فيه حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على الأموال فاحتملها فلم يبق منها إلا ما ذكره الله ، فلما تفرقوا نزلوا على كهانة
عمران بن عامر .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قال : لما ترك القوم أمر الله بعث الله عليهم جرذا يسمى الخلد ، فثقبه من أسفله حتى غرق به جناتهم ، وخرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد بن سليمان قال : سمعت
الضحاك يقول : لما طغوا وبغوا ، يعني سبأ ، بعث الله عليهم جرذا فخرق عليهم السد فأغرقهم الله .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد : بعث الله عليه جرذا وسلطه على الذي كان يحبس الماء الذي يسقيها ، فأخرب في أفواه تلك الحجارة وكل شيء منها من رصاص وغيره ، حتى تركها حجارة ، ثم بعث الله سيل العرم ، فاقتلع ذلك السد وما كان يحبس ، واقتلع تلك الجنتين ، فذهب بهما ، وقرأ (
فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ) قال : ذهب بتلك القرى والجنتين .
وقال آخرون : كانت صفة ذلك أن الماء الذي كانوا يعمرون به جناتهم
[ ص: 382 ] سال إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، فبذلك خربت جناتهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قال : بعث الله عليهم ، يعني على العرم ، دابة من الأرض فثقبت فيه ثقبا ، فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، وأبدلهم الله مكان جنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ، وذلك حين عصوا ، وبطروا المعيشة .
والقول الأول أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله - تعالى ذكره - أخبر أنه أرسل عليهم سيل العرم ، ولا يكون إرسال ذلك عليهم إلا بإسالته عليهم ، أو على جناتهم وأرضهم لا بصرفه عنهم .
وقوله (
وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ) يقول - تعالى ذكره - : وجعلنا لهم مكان بساتينهم من الفواكه والثمار بساتين من جنى ثمر الأراك ، والأراك هو الخمط .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قال : أبدلهم الله مكان جنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ، والخمط : الأراك .
حدثني
يعقوب قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
أبي رجاء قال : سمعت
الحسن يقول في قوله (
ذواتي أكل خمط ) قال : أراه قال : الخمط : الأراك .
حدثني
محمد بن عمارة قال : ثني
عبد الله بن موسى قال : أخبرنا
إسرائيل ، عن
أبي يحيى ، عن
مجاهد ( أكل خمط ) قال : الخمط : الأراك .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، [ ص: 383 ] عن
مجاهد (
ذواتي أكل خمط ) قال : الأراك .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
ذواتي أكل خمط ) والخمط : الأراك ، وأكله : بريره .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله (
وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ) قال : بدلهم الله بجنان الفواكه والأعناب ، إذ أصبحت جناتهم خمطا وهو الأراك .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله (
وبدلناهم بجنتيهم جنتين ) قال : أذهب تلك القرى والجنتين ، وأبدلهم الذي أخبرك ذواتي أكل خمط قال : فالخمط : الأراك قال : جعل مكان العنب أراكا ، والفاكهة أثلا وشيئا من سدر قليل .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار بتنوين " أكل " غير
أبي عمرو ، فإنه يضيفها إلى الخمط بمعنى ذواتي ثمر خمط . وأما الذين لم يضيفوا ذلك إلى الخمط وينونون الأكل ، فإنهم جعلوا الخمط هو الأكل ، فردوه عليه في إعرابه . وبضم الألف والكاف من الأكل قرأت قراء الأمصار ، غير
نافع ، فإنه كان يخفف منها .
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه (
ذواتي أكل ) بضم الألف والكاف لإجماع الحجة من القراء عليه ، وبتنوين أكل لاستفاضة القراءة بذلك في قراء الأمصار ، من غير أن أرى خطأ قراءة من قرأ ذلك بإضافته إلى الخمط ، وذلك في إضافته وترك إضافته ، نظير قول العرب في بستان فلان أعناب كرم وأعناب كرم ، فتضيف أحيانا الأعناب إلى الكرم لأنها منه ، وتنون أحيانا ، ثم تترجم بالكرم عنها ، إذ كانت الأعناب ثمر الكرم .
وأما الأثل : فإنه يقال له : الطرفاء ، وقيل : شجر شبيه بالطرفاء غير أنه أعظم منها ، وقيل : إنها السمر .
[ ص: 384 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ( وأثل ) قال : الأثل : الطرفاء .
وقوله ( وشيء من سدر قليل ) يقول : ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل .
وكان
قتادة يقول في ذلك ما حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثني
سعيد ، عن
قتادة (
ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ) قال : بينما شجر القوم خير الشجر ، إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم .
وقوله ( ذلك جزيناهم بما كفروا ) يقول - تعالى ذكره - : هذا الذي فعلنا بهؤلاء القوم من
سبإ من إرسالنا عليهم سيل العرم ، حتى هلكت أموالهم ، وخربت جناتهم جزاء منا على كفرهم بنا ، وتكذيبهم رسلنا ، و " ذلك " من قوله (
ذلك جزيناهم ) في موضع نصب بموقوع جزيناهم عليه ، ومعنى الكلام : جزيناهم ذلك بما كفروا .
وقوله (
وهل نجازي إلا الكفور ) اختلفت القراء في قراءته ; فقرأته عامة
قراء المدينة ، والبصرة ، وبعض
أهل الكوفة ( وهل يجازى ) بالياء وبفتح الزاي على وجه ما لم يسم فاعله ( إلا الكفور ) رفعا . وقرأ ذلك عامة
قراء الكوفة ( وهل نجازي ) بالنون وبكسر الزاي ( إلا الكفور ) بالنصب .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، ومعنى الكلام : كذلك كافأناهم على كفرهم بالله وهل يجازى إلا الكفور لنعمة الله .
فإن قال قائل : أو ما يجزي الله أهل الإيمان به على أعمالهم الصالحة ، فيخص أهل الكفر بالجزاء؟ فيقال : وهل يجازى إلا الكفور؟ قيل : إن المجازاة في هذا الموضع المكافأة ، والله - تعالى ذكره - وعد أهل الإيمان به التفضل عليهم ،
[ ص: 385 ] وأن يجعل لهم بالواحدة من أعمالهم الصالحة عشر أمثالها إلى ما لا نهاية له من التضعيف ، ووعد المسيء من عباده أن يجعل بالواحدة من سيئاته مثلها مكافأة له على جرمه ، والمكافأة لأهل الكبائر والكفر ، والجزاء لأهل الإيمان مع التفضل ، فلذلك قال - جل ثناؤه - في هذا الموضع (
وهل يجازى إلا الكفور ) ؟ كأنه قال - جل ثناؤه - : لا يجازى : لا يكافأ على عمله إلا الكفور ، إذا كانت المكافأة مثل المكافإ عليه ، والله لا يغفر له من ذنوبه شيئا ، ولا يمحص شيء منها في الدنيا .
وأما المؤمن فإنه يتفضل عليه على ما وصفت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ( وهل نجازي ) : نعاقب .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ) إن الله تعالى إذا أراد بعبده كرامة تقبل حسناته ، وإذا أراد بعبده هوانا أمسك عليه ذنوبه حتى يوافى به يوم القيامة . قال : وذكر لنا
nindex.php?page=hadith&LINKID=812491أن رجلا بينما هو في طريق من طريق المدينة ، إذ مرت به امرأة ، فأتبعها بصره ، حتى أتى على حائط ، فشج وجهه ، فأتى نبي الله ووجهه يسيل دما ، فقال : يا نبي الله ، فعلت كذا وكذا ، فقال له نبي الله : " إن الله إذا أراد بعبد كرامة عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبد هوانا أمسك عليه ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة ، كأنه عير أبتر " .