القول في تأويل قوله تعالى : (
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )
اختلف القراء في قراءة قوله : (
ربنا باعد بين أسفارنا ) فقرأته عامة
قراء المدينة ، والكوفة (
ربنا باعد بين أسفارنا ) على وجه الدعاء والمسألة بالألف . وقرأ ذلك بعض
أهل مكة ، والبصرة ( بعد ) بتشديد العين على الدعاء أيضا . وذكر عن المتقدمين أنه كان يقرؤه (
ربنا باعد بين أسفارنا ) على وجه الخبر من الله أن الله فعل بهم ذلك ، وحكي عن آخر أنه قرأه ( ربنا بعد ) على وجه الخبر أيضا غير أن الرب منادى .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ( ربنا باعد ) و ( بعد ) لأنهما
[ ص: 389 ] القراءتان المعروفتان في قراءة الأمصار ، وما عداهما فغير معروف فيهم ، على أن التأويل من أهل التأويل أيضا يحقق قراءة من قرأه على وجه الدعاء والمسألة ، وذلك أيضا مما يزيد القراءة الأخرى بعدا من الصواب .
فإذا كان هو الصواب من القراءة ، فتأويل الكلام : فقالوا : يا ربنا باعد بين أسفارنا ; فاجعل بيننا وبين
الشأم فلوات ومفاوز ، لنركب فيها الرواحل ، ونتزود معنا فيها الأزواد ، وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم ، وجهلهم بمقدار العافية ، ولقد عجل لهم ربهم الإجابة ، كما عجل للقائلين (
إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) أعطاهم ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من المسألة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال : ثنا
عبثر قال : ثنا
حصين ، عن
أبي مالك في هذه الآية ( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ) قال : كانت لهم قرى متصلة
باليمن ، كان بعضها ينظر إلى بعض ، فبطروا ذلك ، وقالوا : ربنا باعد بين أسفارنا قال : فأرسل الله عليهم سيل العرم ، وجعل طعامهم أثلا وخمطا وشيئا من سدر قليل .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله (
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم ) قال : فإنهم بطروا عيشهم ، وقالوا : لو كان جنى جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه ، فمزقوا بين
الشأم ، وسبإ ، وبدلوا بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ، وأثل وشيء من سدر قليل .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ) بطر القوم نعمة الله وغمطوا كرامة الله ، قال الله (
وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ) .
[ ص: 390 ] حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله (
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ) حتى نبيت في الفلوات والصحاري ( فظلموا أنفسهم ) .
وقوله ( فظلموا أنفسهم ) وكان ظلمهم إياها عملهم بما يسخط الله عليهم من معاصيه مما يوجب لهم عقاب الله ( فجعلناهم أحاديث ) يقول : صيرناهم أحاديث للناس يضربون بهم المثل في السب ، فيقال : تفرق القوم أيادي سبا ، وأيدي سبا إذا تفرقوا وتقطعوا .
وقوله ( ومزقناهم كل ممزق ) يقول : وقطعناهم في البلاد كل مقطع .
كما حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) قال
قتادة : قال
عامر الشعبي : أما
غسان فقد لحقوا
بالشأم ، وأما
الأنصار فلحقوا
بيثرب ، وأما
خزاعة فلحقوا
بتهامة ، وأما
الأزد فلحقوا
بعمان .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : يزعمون أن
عمران بن عامر وهو عم القوم كان كاهنا ، فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويتباعدون فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا هم بعيد ، وجمل شديد ، ومزاد جديد فليلحق بكأس أو كرود قال : فكانت
وادعة بن عمرو ، ومن كان منكم ذا هم مدن وأمرد عن فليلحق
بأرض شن فكانت
عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم بارق ، ومن كان منكم يريد عيشا آينا وحرما آمنا فليلحق
بالأرزين فكانت
خزاعة ، ومن كان يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق
بيثرب ذات النخل ، فكانت
الأوس ، والخزرج فهما هذان الحيان من
الأنصار ، ومن كان يريد خمرا وخميرا ، وذهبا وحريرا ، وملكا وتأميرا فليلحق
بكوسى وبصرى فكانت
غسان بنو جفنة ملوك
الشأم ، ومن كان منهم
بالعراق ، قال
ابن إسحاق : قد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة
طريفة امرأة عمران بن عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ،
[ ص: 391 ] والله أعلم أي ذلك كان قال : فلما تفرقوا ، نزلوا على كهانة
عمران بن عامر .
وقوله (
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) يقول - تعالى ذكره - : إن في تمزيقناهم كل ممزق لآيات ، يقول : لعظة وعبرة ودلالة على واجب حق الله على عبده من الشكر على نعمه إذا أنعم عليه وحقه من الصبر على محنته إذا امتحنه ببلاء لكل صبار شكور على نعمه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) كان
مطرف يقول : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر .