القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا تقبل منا )
قال
أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت
وإسماعيل يقولان : ربنا تقبل منا . وذكر أن ذلك كذلك في قراءة
ابن مسعود . وهو قول جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2051 - حدثني
موسى بن هارون قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها
إبراهيم ربه ، قال : "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا
[ ص: 65 ] أمة مسلمة لك ، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" .
2052 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : أخبرني
ابن كثير قال : حدثنا
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : "
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " قال : هما يرفعان القواعد من البيت ويقولان : "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال :
وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته ، والشيخ يبني .
فتأويل الآية على هذا القول : وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت
وإسماعيل قائلين : ربنا تقبل منا .
وقال آخرون : بل قائل ذلك كان
إسماعيل . فتأويل الآية على هذا القول : وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت ، وإذ يقول ربنا تقبل منا . فيصير حينئذ"
إسماعيل " مرفوعا بالجملة التي بعده . و"يقول " حينئذ ، خبر له دون
إبراهيم .
ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد ، بعد إجماعهم على أن
إبراهيم كان ممن رفعها .
فقال بعضهم : رفعها
إبراهيم وإسماعيل جميعا .
ذكر من قال ذلك :
2053 - حدثني
موسى بن هارون قال : حدثنا
عمرو بن حماد قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" .
[ ص: 66 ] قال : فانطلق
إبراهيم حتى أتى
مكة ، فقام هو
وإسماعيل وأخذا المعاول ، لا يدريان أين البيت . فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكنست لهما ما حول
الكعبة عن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران ، حتى وضعا الأساس . فذلك حين يقول : (
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) . [ سورة الحج : 26 ] . فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن ،
قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني ، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا . قال : يا أبت ، إني كسلان تعب . قال : علي بذلك . فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر فلم يرضه ، فقال : ائتني بحجر أحسن من هذا . فانطلق يطلب له حجرا ، وجاءه
جبريل بالحجر الأسود من
الهند ، وكان أبيض ، ياقوتة بيضاء مثل الثغامة . وكان
آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس . فجاءه
إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبت من جاءك بهذا ؟ فقال : من هو أنشط منك! فبنياه .
2054 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عن
عمر بن عبد الله بن عروة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير الليثي قال : بلغني أن
إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت .
[ ص: 67 ]
وقال آخرون : بل رفع قواعد البيت
إبراهيم ، وكان
إسماعيل يناوله الحجارة .
ذكر من قال ذلك :
2055 - حدثنا
أحمد بن ثابت الرازي قال : حدثنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قال : جاء
إبراهيم ، وإسماعيل يبري نبلا قريبا من
زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد ، ثم قال : يا
إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر . قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال :
فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا ! وأشار إلى
الكعبة ،
والكعبة مرتفعة على ما حولها . قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت . قال : فجعل
إسماعيل يأتي بالحجارة ،
وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ،
وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : "
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، حتى دور حول البيت .
[ ص: 68 ]
2056 - حدثنا
ابن سنان القزاز قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12090عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال : حدثنا
إبراهيم بن نافع قال : سمعت
كثير بن كثير يحدث ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قال : جاء - يعني
إبراهيم - فوجد
إسماعيل يصلح نبلا من وراء
زمزم . قال
إبراهيم : يا
إسماعيل ، إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا . فقال له
إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك . فقال له
إبراهيم : قد أمرك أن تعينني عليه . قال : إذا أفعل . قال : فقام معه ، فجعل
إبراهيم يبنيه ،
وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان : "
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم فلما ارتفع البنيان ، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة ، قام على حجر ، فهو
مقام إبراهيم ، فجعل يناوله ويقولان : "
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " .
وقال آخرون : بل الذي رفع قواعد البيت
إبراهيم وحده ،
وإسماعيل يومئذ طفل صغير .
ذكر من قال ذلك :
2057 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار nindex.php?page=showalam&ids=12166ومحمد بن المثنى ، قالا حدثنا
مؤمل قال : حدثنا
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن
حارثة بن مضرب ، عن
علي قال : لما أمر
إبراهيم ببناء البيت ، خرج معه
إسماعيل وهاجر . قال : فلما قدم
مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة ، فيه مثل الرأس ، فكلمه فقال : يا
إبراهيم ، ابن على
[ ص: 69 ] ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص . فلما بنى [ خرج ] وخلف
إسماعيل وهاجر ، فقالت
هاجر : يا
إبراهيم ، إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : انطلق فإنه لا يضيعنا . قال : فعطش
إسماعيل عطشا شديدا قال : فصعدت
هاجر الصفا ، فنظرت فلم تر شيئا . ثم أتت
المروة ، فنظرت فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى
الصفا فنظرت ، فلم تر شيئا . حتى فعلت ذلك سبع مرات . فقالت : يا
إسماعيل ، مت حيث لا أراك . فأتته وهو يفحص برجله من العطش . فناداها
جبريل فقال لها : من أنت ؟ فقالت : أنا
هاجر ، أم ولد إبراهيم . قال : إلى من وكلكما ؟ قالت : وكلنا إلى الله . قال : وكلكما إلى كاف! قال : ففحص [ الغلام ] الأرض بإصبعه ،
فنبعت زمزم ، فجعلت تحبس الماء . فقال : دعيه فإنها رواء .
2058 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17259هناد بن السري قال : حدثنا
أبو الأحوص ، عن
سماك ، عن
خالد بن عرعرة : أن رجلا قام إلى
علي فقال : ألا تخبرني عن البيت ؟
[ ص: 70 ] أهو
أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال : لا ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة ،
مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني : إن الله أوحى إلى
إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض . قال : فضاق
إبراهيم بذلك ذرعا ، فأرسل الله السكينة - وهى ريح خجوج ، ولها رأسان - فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى
مكة ، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة ، وأمر
إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة . فبنى
إبراهيم وبقي حجر ، فذهب الغلام يبغي شيئا ، فقال
إبراهيم : لا! ابغني حجرا كما آمرك . قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرا ، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه ، فقال : يا أبت ، من أتاك بهذا الحجر ؟ قال : أتاني به من لم يتكل على بنائك ، جاء به
جبريل من السماء . فأتماه .
[ ص: 71 ]
2059 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى قال : حدثنا
محمد بن جعفر قال : حدثنا
سعيد ، عن
سماك قال : سمعت
خالد بن عرعرة يحدث عن
علي بنحوه .
2060 - حدثنا
المثنى قال : حدثنا
أبو داود قال : حدثنا
شعبة nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم ، عن
سماك ، عن
خالد بن عرعرة ، عن
علي ، بنحوه .
قال
أبو جعفر : فمن قال : رفع القواعد
إبراهيم وإسماعيل ، أو قال : رفعها
إبراهيم وكان
إسماعيل يناوله الحجارة ، فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول
لإبراهيم وإسماعيل . ويكون الكلام حينئذ : "وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت
وإسماعيل " يقولان : "ربنا تقبل منا" . وقد كان يحتمل على هذا التأويل ، أن يكون المضمر من القول
لإسماعيل خاصة دون
إبراهيم ،
ولإبراهيم خاصة دون
إسماعيل ، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول
لإبراهيم وإسماعيل جميعا .
وأما على التأويل الذي روي عن
علي : - أن
إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون
إسماعيل - فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا
لإسماعيل خاصة .
والصواب من القول عندنا في ذلك : أن المضمر من القول
لإبراهيم وإسماعيل ، وأن قواعد البيت رفعها
إبراهيم وإسماعيل جميعا . وذلك أن
إبراهيم وإسماعيل ، إن كانا هما بنياها ورفعاها فهو ما قلنا . وإن كان
إبراهيم تفرد ببنائها ، وكان
[ ص: 72 ] إسماعيل يناوله ، فهما أيضا رفعاها ، لأن رفعها كان بهما : من أحدهما البناء ، ومن الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها . ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته .
وإنما قلنا ما قلنا من ذلك ، لإجماع جميع أهل التأويل على أن
إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه ، أنهما كانا يقولانه ، وذلك قولهما : "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" . فمعلوم أن
إسماعيل لم يكن ليقول ذلك ، إلا وهو : إما رجل كامل ، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع ، ولزمته فرائض الله وأحكامه . وإذا كان - في حال بناء أبيه ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله - كذلك ، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه ، إما على البناء ، وإما على نقل الحجارة . وأي ذلك كان منه ، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت ، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده
إبراهيم عليهما السلام .
فتأويل الكلام : وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت
وإسماعيل يقولان : ربنا تقبل منا عملنا ، وطاعتنا إياك ، وعبادتنا لك ، في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به ، في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه ، إنك أنت السميع العليم .
وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه ، ولا منزلا ينزلانه ، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك . ولذلك قالا "ربنا تقبل منا" . ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهم ، لم يكن لقولهما : "تقبل منا" وجه مفهوم . لأنه كانا
[ ص: 73 ] يكونان - لو كان الأمر كذلك - سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه . وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه .