القول في تأويل قوله تعالى : (
وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ( 52 ) )
يقول - تعالى ذكره - : وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله : آمنا
[ ص: 425 ] به ، يعني : آمنا بالله وبكتابه ورسوله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله (
وقالوا آمنا به ) قالوا : آمنا بالله .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وقالوا آمنا به ) عند ذلك ، يعني : حين عاينوا عذاب الله .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله (
وقالوا آمنا به ) بعد القتل ، وقوله (
وأنى لهم التناوش ) يقول : ومن أي وجه لهم التناوش .
واختلفت قراء الأمصار في ذلك ; فقرأته عامة
قراء المدينة ( التناوش ) بغير همز ، بمعنى التناول ، وقرأته عامة
قراء الكوفة والبصرة : ( التناؤش ) بالهمز ، بمعنى التنؤش ، وهو الإبطاء ، يقال منه : تناءشت الشيء : أخذته من بعيد ، ونشته : أخذته من قريب ، ومن التنؤش قول الشاعر :
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور
[ ص: 426 ] ومن النوش قول الراجز :
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
ويقال للقوم في الحرب ، إذا دنا بعضهم إلى الرماح ولم يتلاقوا : قد تناوش القوم .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قراء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن معنى ذلك : وقالوا آمنا بالله ، في حين لا ينفعهم قيل ذلك ، فقال الله ( وأنى لهم التناوش ) أي : وأين لهم التوبة والرجعة ، أي : قد بعدت عنهم ، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها ، وإنما
[ ص: 427 ] وصفت ذلك الموضع بالبعيد ، لأنهم قالوا : ذلك في القيامة فقال الله : أنى لهم بالتوبة المقبولة ، والتوبة المقبولة إنما كانت في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدا من الآخرة ، فبأي القراءتين اللتين ذكرت قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك .
وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا ذلك بالهمز همزوا وهم يريدون معنى من لم يهمز ، ولكنهم همزوه لانضمام الواو فقلبوها ، كما قيل : ( وإذا الرسل أقتت ) فجعلت الواو من وقتت إذ كانت مضمومة همزوه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أبو كريب قال : ثنا
ابن عطية قال : ثنا
إسرائيل ، عن
أبي إسحاق ، عن
التميمي قال : قلت
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس : أرأيت قول الله ( وأنى لهم التناوش ) قال : يسألون الرد وليس بحين رد .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
حكام ، عن
عنبسة ، عن
أبي إسحاق ، عن
التميمي ، عن
ابن عباس نحوه .
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله ( وأنى لهم التناوش ) يقول : فكيف لهم بالرد .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ( وأنى لهم التناوش ) قال : الرد .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ( وأنى لهم التناوش ) قال : التناوب ( من مكان بعيد ) .
حدثني يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله (
وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ) قال : هؤلاء قتلى
أهل [ ص: 428 ] بدر من قتل منهم ، وقرأ (
ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به ) الآية قال : التناوش : التناول ، وأنى لهم تناول التوبة من مكان بعيد وقد تركوها في الدنيا قال : وهذا بعد الموت في الآخرة .
قال : وقال
ابن زيد في قوله ( وقالوا آمنا به ) بعد القتل (
وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ) وقرأ ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) قال : ليس لهم توبة ، وقال : عرض الله عليهم أن يتوبوا مرة واحدة ، فيقبلها الله منهم ، فأبوا ، أو يعرضون التوبة بعد الموت قال : فهم يعرضونها في الآخرة خمس عرضات ، فيأبى الله أن يقبلها منهم قال :
والتائب عند الموت ليست له توبة (
ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ) الآية ، وقرأ (
ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ) .
حدثنا
عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا
مروان ، عن
جويبر ، عن
الضحاك فى قول ( وأنى لهم التناوش ) قال : وأنى لهم الرجعة .
وقوله ( من مكان بعيد ) يقول : من آخرتهم إلى الدنيا .
كما حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله ( من مكان بعيد ) من الآخرة إلى الدنيا .