صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فواكه وهم مكرمون ( 42 ) في جنات النعيم ( 43 ) على سرر متقابلين ( 44 ) يطاف عليهم بكأس من معين ( 45 ) بيضاء لذة للشاربين ( 46 ) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ( 47 ) ) [ ص: 36 ] قوله ( فواكه ) ردا على الرزق المعلوم تفسيرا له ، ولذلك رفعت وقوله ( وهم مكرمون ) يقول : وهم مع الذي لهم من الرزق المعلوم في الجنة ، مكرمون بكرامة الله التي أكرمهم الله بها

( في جنات النعيم ) يعني : في بساتين النعيم

( على سرر متقابلين ) يعني : أن بعضهم يقابل بعضا ، ولا ينظر بعضهم في قفا بعض . وقوله ( يطاف عليهم بكأس من معين ) يقول - تعالى ذكره - : يطوف الخدم عليهم بكأس من خمر جارية ظاهرة لأعينهم غير غائرة .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( يطاف عليهم بكأس من معين ) قال : كأس من خمر جارية ، والمعين : هي الجارية .

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله ( بكأس من معين ) قال : كل كأس في القرآن فهو خمر .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الله بن داود ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم قال : كل كأس في القرآن فهو خمر

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( بكأس من معين ) قال : الخمر . والكأس عند العرب : كل إناء فيه شراب ، فإن لم يكن فيه شراب لم يكن كأسا ، ولكنه يكون إناء .

وقوله ( بيضاء لذة للشاربين ) يعني بالبيضاء : الكأس ، ولتأنيث الكأس أنثت البيضاء ، ولم يقل أبيض ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : صفراء .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( بيضاء ) قال السدي : في قراءة عبد الله : صفراء [ ص: 37 ] وقوله ( لذة للشاربين ) يقول : هذه الخمر لذة يلتذها شاربوها .

وقوله ( لا فيها غول ) يقول : لا في هذه الخمر غول ، وهو أن تغتال عقولهم : يقول : لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها ، كما قال الشاعر :


وما زالت الكأس تغتالنا وتذهب بالأول الأول



والعرب تقول : ليس فيها غيلة وغائلة وغول . بمعنى واحد ، ورفع غول ولم ينصب بلا لدخول حرف الصفة بينها وبين الغول ، وكذلك تفعل العرب في التبرئة إذا حالت بين لا والاسم بحرف من حروف الصفات - رفعوا الاسم ولم ينصبوه ، وقد يحتمل قوله ( لا فيها غول ) أن يكون معنيا به : ليس فيها ما يؤذيهم من مكروه ، وذلك أن العرب تقول للرجل يصاب بأمر مكروه ، أو ينال بداهية عظيمة : غال فلانا غول . وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : ليس فيها صداع .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( لا فيها غول ) يقول : ليس فيها صداع .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذى فتشكى منه بطونهم .

[ ص: 38 ] ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( لا فيها غول ) قال : هي الخمر ليس فيها وجع بطن .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( لا فيها غول ) قال : وجع بطن .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( لا فيها غول ) قال : الغول ما يوجع البطون ، وشارب الخمر هاهنا يشتكي بطنه .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( لا فيها غول ) يقول : ليس فيها وجع بطن ، ولا صداع رأس .

وقال آخرون : معنى ذلك : أنها لا تغول عقولهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( لا فيها غول ) قال : لا تغتال عقولهم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذى ولا مكروه .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( لا فيها غول ) قال : أذى ولا مكروه .

حدثنا محمد بن سنان القزاز قال : ثنا عبد الله بن يزيعة قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( لا فيها غول ) قال : ليس فيها أذى ولا مكروه .

[ ص: 39 ] وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها إثم .

ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها وجه ، وذلك أن الغول في كلام العرب : هو ما غال الإنسان فذهب به ، فكل من ناله أمر يكرهه ضربوا له بذلك المثل ، فقالوا : غالت فلانا غول . فالذاهب العقل من شرب الشراب ، والمشتكي البطن منه ، والمصدع الرأس من ذلك ، والذي ناله منه مكروه - كلهم قد غالته غول .

فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله - تعالى ذكره - قد نفى عن شراب الجنة أن يكون فيه غول ، فالذي هو أولى بصفته أن يقال فيه كما قال - جل ثناؤه - ( لا فيها غول ) فيعم بنفي كل معاني الغول عنه ، وأعم ذلك أن يقال : لا أذى فيها ولا مكروه على شاربيها في جسم ولا عقل ، ولا غير ذلك .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( ولا هم عنها ينزفون ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( ينزفون ) بفتح الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها تنزف عقولهم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : " ولا هم عنها ينزفون " بكسر الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها ينفد شرابهم .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى غير مختلفتيه ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم ، ولا يسكرهم شربهم إياه ، فيذهب عقولهم .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا تذهب عقولهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( ولا هم عنها ينزفون ) يقول : لا تذهب عقولهم .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف فتذهب [ ص: 40 ] عقولهم .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تذهب عقولهم .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف عقولهم .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف العقول .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تغلبهم على عقولهم .

وهذا التأويل الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه لم تفصل لنا رواته القراءة الذي هذا تأويلها ، وقد يحتمل أن يكون ذلك تأويل قراءة من قرأها ينزفون وينزفون كلتيهما ، وذلك أن العرب تقول : قد نزف الرجل فهو منزوف : إذا ذهب عقله من السكر ، وأنزف فهو منزف ، محكية عنهم اللغتان كلتاهما في ذهاب العقل من السكر ، وأما إذا فنيت خمر القوم فإني لم أسمع فيه إلا أنزف القوم بالألف .

ومن الإنزاف بمعنى : ذهاب العقل من السكر - قول الأبيرد :


لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتم     لبئس الندامى كنتم آل أبجرا



التالي السابق


الخدمات العلمية