القول في
تأويل قوله تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ( 33 )
لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ( 34 ) )
اختلف أهل التأويل في الذي جاء بالصدق وصدق به ، وما ذلك ، فقال بعضهم : الذي جاء بالصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قالوا : والصدق الذي جاء به : لا إله إلا الله ، والذي صدق به - أيضا - هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله : (
والذي جاء بالصدق ) يقول : من جاء بلا إله إلا الله ( وصدق به ) يعني : رسوله .
وقال آخرون : الذي جاء بالصدق : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي صدق به :
أبو بكر رضي الله عنه .
[ ص: 290 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني
أحمد بن منصور قال : ثنا
أحمد بن مصعد المروزي قال : ثنا
عمر بن إبراهيم بن خالد عن
nindex.php?page=showalam&ids=16490عبد الملك بن عمير عن
أسيد بن صفوان عن
علي - رضي الله عنه - في قوله : (
والذي جاء بالصدق ) قال :
محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدق به قال :
أبو بكر رضي الله عنه .
وقال آخرون : الذي جاء بالصدق : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصدق : القرآن ، والمصدقون به : المؤمنون
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
والذي جاء بالصدق ) قال : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بالقرآن ، وصدق به المؤمنون .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
والذي جاء بالصدق ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق به المسلمون .
وقال آخرون : الذي جاء بالصدق
جبريل ، والصدق : القرآن الذي جاء به من عند الله ، وصدق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد قال : ثنا
أحمد قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في قوله : (
والذي جاء بالصدق وصدق به )
محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال آخرون : الذي جاء بالصدق : المؤمنون ، والصدق : القرآن ، وهم المصدقون به .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
جرير ، عن
منصور ، عن
مجاهد قوله : (
والذي جاء بالصدق وصدق به ) قال : الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة ، فيقولون :
[ ص: 291 ] هذا الذي أعطيتمونا فاتبعنا ما فيه .
قال : ثنا
حكام ، عن
عمرو عن
منصور ، عن
مجاهد (
والذي جاء بالصدق وصدق به ) قال : هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون : هذا الذي أعطيتمونا ، فاتبعنا ما فيه .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - عنى بقوله : (
والذي جاء بالصدق وصدق به ) - كل من دعا إلى توحيد الله ، وتصديق رسله ، والعمل بما ابتعث به رسوله من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به ، وأن يقال : الصدق هو القرآن ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، والمصدق به : المؤمنون بالقرآن ، من جميع خلق الله كائنا من كان من نبي الله وأتباعه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ؛ لأن قوله - تعالى ذكره - : (
والذي جاء بالصدق وصدق به ) عقيب قوله : (
فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ) وذلك
ذم من الله للمفترين عليه ، المكذبين بتنزيله ووحيه ، الجاحدين وحدانيته . فالواجب أن يكون عقيب ذلك مدح من كان بخلاف صفة هؤلاء المذمومين ، وهم الذين دعوهم إلى توحيد الله ، ووصفه بالصفة التي هو بها ، وتصديقهم بتنزيل الله ووحيه . والذين هم كانوا كذلك يوم نزلت هذه الآية - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . ومن بعدهم القائمون في كل عصر وزمان بالدعاء إلى توحيد الله ، وحكم كتابه ؛ لأن الله - تعالى ذكره - لم يخص وصفه بهذه الصفة التي في هذه الآية على أشخاص بأعيانهم ، ولا على أهل زمان دون غيرهم ، وإنما وصفهم بصفة ، ثم مدحهم بها ، وهي المجيء بالصدق والتصديق به ، فكل من كان كذلك وصفه فهو داخل في جملة هذه الآية إذا كان من بني
آدم .
ومن الدليل على صحة ما قلنا أن ذلك كذلك - في قراءة
ابن مسعود . " والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به " فقد بين ذلك من قراءته أن الذي من
[ ص: 292 ] قوله (
والذي جاء بالصدق ) لم يعن بها واحد بعينه ، وأنه مراد بها جماع ، ذلك صفتهم ، ولكنها أخرجت بلفظ الواحد ؛ إذ لم تكن موقتة . وقد زعم بعض أهل العربية من البصريين ، أن " الذي " في هذا الموضع جعل في معنى جماعة بمنزلة " من " . ومما يؤيد ما قلنا أيضا قوله : (
أولئك هم المتقون ) فجعل الخبر عن " الذي " جماعا ؛ لأنها في معنى جماع . وأما الذين قالوا : عني بقوله : ( وصدق به ) - غير الذي جاء بالصدق ، فقول بعيد من المفهوم ؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان التنزيل : والذي جاء بالصدق ، والذي صدق به أولئك هم المتقون ، فكانت تكون " الذي " مكررة مع التصديق ، ليكون المصدق غير المصدق ، فأما إذا لم يكرر ، فإن المفهوم من الكلام أن التصديق من صفة الذي جاء بالصدق ، لا وجه للكلام غير ذلك . وإذا كان ذلك كذلك ، وكانت " الذي " في معنى الجماع بما قد بينا ، كان الصواب من القول في تأويله ما بينا .
وقوله : (
أولئك هم المتقون ) يقول - جل ثناؤه - : هؤلاء الذين هذه صفتهم . هم
الذين اتقوا الله بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد ، وأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، فخافوا عقابه .
كما حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس (
أولئك هم المتقون ) يقول : اتقوا الشرك .
وقوله : (
لهم ما يشاءون عند ربهم ) يقول - تعالى ذكره - : لهم عند ربهم يوم القيامة ما تشتهيه أنفسهم ، وتلذه أعينهم (
ذلك جزاء المحسنين ) يقول - تعالى ذكره - : هذا الذي لهم عند ربهم ، جزاء من أحسن في الدنيا فأطاع الله فيها ، وائتمر لأمره ، وانتهى عما نهاه فيها عنه .