[ ص: 104 ] القول في
تأويل قوله تعالى ( قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 135 ) )
قال
أبو جعفر : و"الملة " ، الدين
وأما "الحنيف " ، فإنه المستقيم من كل شيء . وقد قيل : إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى ، إنما قيل له "أحنف " ، نظرا له إلى السلامة ، كما قيل للمهلكة من البلاد "المفازة " ، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة ، وكما قيل للديغ : "السليم " ، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك ، وما أشبه ذلك .
فمعنى الكلام إذا : قل يا
محمد ، بل نتبع ملة
إبراهيم مستقيما .
فيكون "الحنيف " حينئذ حالا من "
إبراهيم " وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك . فقال بعضهم : "الحنيف" الحاج . وقيل : إنما سمي دين
إبراهيم الإسلام "الحنيفية " ، لأنه أول إمام لزم العباد - الذين كانوا في عصره ، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة - اتباعه في مناسك الحج ، والائتمام به فيه . قالوا : فكل من حج البيت فنسك مناسك
إبراهيم على ملته ، فهو "حنيف " ، مسلم على دين
إبراهيم .
ذكر من قال ذلك :
2091 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار قال : حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا
القاسم بن الفضل ، عن
كثير أبي سهل ، قال : سألت
الحسن عن "الحنيفية " ، قال : حج البيت .
2092 - حدثني
محمد بن عبادة الأسدي قال : حدثنا
عبد الله بن موسى [ ص: 105 ] قال : أخبرنا
فضيل ، عن
عطية في قوله : "حنيفا " قال الحنيف : الحاج .
2093 - حدثني
الحسين بن علي الصدائي قال : حدثنا أبي ، عن
الفضيل ، عن
عطية مثله .
[ ص: 106 ]
2094 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15738حكام بن سلم ، عن
عنبسة ، عن
محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن
مجاهد قال : الحنيف الحاج .
2095 - حدثني
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
ابن التيمي ، عن
كثير بن زياد قال : سألت
الحسن عن "الحنيفية " ، قال : هو حج هذا البيت .
قال
ابن التيمي : وأخبرني
جويبر ، عن
الضحاك بن مزاحم ، مثله .
2096 - حدثنا
ابن بشار قال : حدثنا
ابن مهدي قال : حدثنا
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
مجاهد : "حنفاء " قال : حجاجا .
2097 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله بن صالح قال : حدثني
معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس قوله : "حنيفا " قال : حاجا .
2098 - حدثت عن
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
فضيل بن غزوان ، عن
عبد الله بن القاسم قال : كان الناس من
مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون "حنفاء " ، فأنزل الله تعالى ذكره (
حنفاء لله غير مشركين به ) . [ سورة الحج : 31 ]
وقال آخرون : " الحنيف " ، المتبع ، كما وصفنا قبل ، من قول الذين قالوا : إن معناه : الاستقامة .
ذكر من قال ذلك :
2099 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار قال : حدثنا
عبد الرحمن قال : حدثنا
سفيان ،
[ ص: 107 ] عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : "حنفاء " قال : متبعين .
وقال آخرون : إنما سمي دين
إبراهيم "الحنيفية " ، لأنه
أول إمام سن للعباد الختان ، فاتبعه من بعده عليه . قالوا : فكل من اختتن على سبيل اختتان
إبراهيم ، فهو على ما كان عليه
إبراهيم من الإسلام ، فهو "حنيف " على ملة
إبراهيم .
وقال آخرون : "بل ملة إبراهيم حنيفا " ، بل ملة
إبراهيم مخلصا . "فالحنيف " على قولهم : المخلص دينه لله وحده .
ذكر من قال ذلك :
2100 - حدثنا
محمد بن الحسين قال : حدثنا
أحمد بن المفضل قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
واتبع ملة إبراهيم حنيفا " ، يقول : مخلصا .
وقال آخرون : بل "الحنيفية " الإسلام . فكل من ائتم
بإبراهيم في ملته فاستقام عليها ، فهو "حنيف " .
قال
أبو جعفر : "الحنف " عندي ، هو الاستقامة على دين
إبراهيم ، واتباعه على ملته . . وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت ، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء . وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله : (
ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) [ سورة آل عمران : 67 ]
فكذلك القول في الختان . لأن "الحنيفية " لو كانت هي الختان ، لوجب أن يكون اليهود حنفاء . وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله : (
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ) [ سورة آل عمران : 67 ] .
[ ص: 108 ]
فقد صح إذا أن "الحنيفية " ليست الختان وحده ، ولا حج البيت وحده ، ولكنه هو ما وصفنا : من الاستقامة على ملة
إبراهيم ، واتباعه عليها ، والائتمام به فيها .
فإن قال قائل : أوما كان من كان من قبل
إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، من الأنبياء وأتباعهم ، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامة
إبراهيم وأتباعه ؟
قيل : بلى .
فإن قال : فكيف أضيف "الحنيفية " إلى
إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة ، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم ؟
قيل : إن كل من كان قبل
إبراهيم من الأنبياء كان حنيفا متبعا طاعة الله ، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدا منهم إماما لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة ، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم ، فجعله إماما فيما بينه من مناسك الحج والختان ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، تعبدا به أبدا إلى قيام الساعة . وجعل ما سن من ذلك علما مميزا بين مؤمني عباده وكفارهم ، والمطيع منهم له والعاصي . فسمي الحنيف من الناس "حنيفا " باتباعه ملته ، واستقامته على هديه ومنهاجه ، وسمي الضال من ملته بسائر أسماء الملل ، فقيل : "يهودي ، ونصراني ، ومجوسي " ، وغير ذلك من صنوف الملل
وأما قوله : "وما كان من المشركين " ، يقول : إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام ، ولا كان من اليهود ولا من النصارى ، بل كان حنيفا مسلما .