القول في
تأويل قوله تعالى : ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ( 73 )
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ( 74 ) )
يقول - تعالى ذكره - : وحشر الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه في الدنيا ، وأخلصوا له فيها الألوهة ، وأفردوا له العبادة ، فلم يشركوا في عبادتهم إياه شيئا (
إلى الجنة زمرا ) يعني جماعات ، فكان سوق هؤلاء إلى منازلهم من الجنة وفدا على ما قد بينا قبل فى سورة مريم على نجائب من نجائب الجنة ، وسوق الآخرين إلى النار دعا ووردا ، كما قال الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . وقد ذكر ذلك في أماكنه من هذا الكتاب .
وقد حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ) ، وفي قوله : (
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ) قال : كان سوق أولئك عنفا وتعبا ودفعا ، وقرأ : (
يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ) قال : يدفعون دفعا ، وقرأ : (
فذلك الذي يدع اليتيم ) . قال : يدفعه ، وقرأ (
ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا - و -
نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) . ثم قال : فهؤلاء وفد الله .
حدثنا
مجاهد بن موسى قال : ثنا
يزيد قال : أخبرنا
شريك بن [ ص: 339 ] عبد الله ، عن
أبي إسحاق ، عن
عاصم بن ضمرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله : (
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ) حتى إذا انتهوا إلى بابها ، إذا هم بشجرة يخرج من أصلها عينان ، فعمدوا إلى إحداهما ، فشربوا منها كأنما أمروا بها ، فخرج ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى ، ثم عمدوا إلى الأخرى ، فتوضئوا منها كأنما أمروا به ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبدا ولن تبلى ثيابهم بعدها ، ثم دخلوا الجنة ، فتلقتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون ، فيقولون : أبشر ، أعد الله لك كذا ، وأعد لك كذا وكذا ، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه جندل اللؤلؤ الأحمر والأصفر والأخضر ، يتلألأ كأنه البرق ، فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره لذهب ، ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه ، فيقول : أبشري قد قدم فلان بن فلان ، فيسميه باسمه واسم أبيه ، فتقول : أنت رأيته ، أنت رأيته! فيستخفها الفرح حتى تقوم ، فتجلس على أسكفة بابها ، فيدخل فيتكئ على سريره ، ويقرأ هذه الآية : (
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) . . . الآية .
حدثنا
محمد قال : ثنا
أحمد قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : ذكر
أبو إسحاق عن
الحارث ، عن
علي رضي الله عنه قال : يساقون إلى الجنة ، فينتهون إليها ، فيجدون عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان تجريان ، فيعمدون إلى إحداهما ، فيغتسلون منها ، فتجري عليهم نضرة النعيم ، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبدا ، ولن تغبر جلودهم بعدها أبدا ، كأنما دهنوا بالدهان ، ويعمدون إلى الأخرى ، فيشربون منها ، فيذهب ما في بطونهم من قذى أو أذى ، ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون ، فيفتح لهم ، فتتلقاهم خزنة الجنة فيقولون (
سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) قال : وتتلقاهم الولدان المخلدون ، يطيفون بهم كما تطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم إذا جاء من الغيبة ، يقولون : أبشر أعد الله لك كذا ، وأعد لك كذا ، فينطلق أحدهم إلى زوجته ، فيبشرها به ، فيقول : قدم فلان باسمه الذي كان يسمى به في الدنيا ، وقال : فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ، وتقول : أنت رأيته ، أنت رأيته ؟ قال : فيقول : نعم ، قال :
[ ص: 340 ] فيجيء حتى يأتي منزله ، فإذا أصوله من جندل اللؤلؤ من بين أصفر وأحمر وأخضر ، قال : فيدخل فإذا الأكواب موضوعة ، والنمارق مصفوفة ، والزرابي مبثوثة قال : ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين ، فلولا أن الله أعدها له لالتمع بصره من نورها وحسنها ، قال : فاتكأ عند ذلك ويقول : (
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) قال : فتناديهم الملائكة : (
أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) .
حدثنا
محمد قال : ثنا
أحمد قال : ثنا
أسباط قال : ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي نحوه أيضا ، غير أنه قال : لهو أهدى إلى منزله في الجنة منه إلى منزله في الدنيا ، ثم قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) .
واختلف أهل العربية في موضع جواب " إذا " التي في قوله (
حتى إذا جاءوها ) فقال بعض نحويي
البصرة : يقال إن قوله (
وقال لهم خزنتها ) في معنى : قال لهم ، كأنه يلغي الواو ، وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة ، كما قال الشاعر :
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن إلا توهم حالم بخيال
فيشبه أن يكون يريد : فإذا ذلك لم يكن . قال : وقال بعضهم : فأضمر الخبر ، وإضمار الخبر أيضا أحسن في الآية ، وإضمار الخبر في الكلام كثير . وقال آخر منهم : هو مكفوف عن خبره ، قال : والعرب تفعل مثل هذا ، قال
عبد مناف بن ربع في آخر قصيدة :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
[ ص: 341 ]
وقال
الأخطل في آخر القصيدة :
خلا أن حيا من قريش تفضلوا على الناس أو أن الأكارم نهشلا
وقال بعض
نحويي الكوفة : أدخلت في حتى إذا وفي فلما والواو في جوابها وأخرجت ، فأما من أخرجها فلا شيء فيه ، ومن أدخلها شبه الأوائل بالتعجب ، فجعل الثاني نسقا على الأول ، وإن كان الثاني جوابا كأنه قال : أتعجب لهذا وهذا .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : الجواب متروك ، وإن كان القول الآخر غير مدفوع ، وذلك أن قوله : (
وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) يدل على أن في الكلام متروكا ، إذ كان عقيبه (
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ) ، وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : حتى إذا جاءوا وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، دخلوها وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده . وعنى بقوله (
سلام عليكم ) : أمنة من الله لكم أن ينالكم بعد مكروه أو أذى . وقوله ( طبتم ) يقول : طابت أعمالكم في الدنيا ، فطاب اليوم مثواكم .
وكان
مجاهد يقول في ذلك ما حدثنا
محمد بن عمر قال : ثنا
أبو عاصم . قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
[ ص: 342 ] ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد يقول في ( طبتم ) قال : كنتم طيبين في طاعة الله .
وقوله : (
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ) يقول وقال الذين سيقوا زمرا ودخلوها : الشكر خالص لله الذي صدقنا وعده ، الذي كان وعدناه في الدنيا على طاعته ، فحققه بإنجازه لنا اليوم ، (
وأورثنا الأرض ) يقول : وجعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا ، فدخلوها ، ميراثا لنا عنهم .
كما حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
وأورثنا الأرض ) قال : أرض الجنة .
حدثنا
محمد قال : ثنا
أحمد قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي (
وأورثنا الأرض ) أرض الجنة .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
وأورثنا الأرض ) قال : أرض الجنة ، وقرأ : (
أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) .
وقوله : (
نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) يقول : نتخذ من الجنة بيتا ، ونسكن منها حيث نحب ونشتهي .
كما حدثنا
محمد قال : ثنا
أحمد قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي (
نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) ننزل منها حيث نشاء .
وقوله : (
فنعم أجر العاملين ) يقول : فنعم ثواب المطيعين لله ، العاملين له في الدنيا الجنة لمن أعطاه الله إياها في الآخرة .