[ ص: 346 ] [ ص: 347 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : (
حم ( 1 )
تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( 2 )
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ( 3 ) )
اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( حم ) فقال بعضهم : هو حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم ، وهو الحاء والميم منه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي قال : ثنا
علي بن الحسن قال : ثني أبي ، عن
يزيد ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس : الر ، وحم ، ون ، حروف الرحمن مقطعة .
وقال آخرون : هو قسم أقسمه الله ، وهواسم من أسماء الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قال : ( حم ) : قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله .
حدثنا
محمد بن الحسين قال : ثنا
أحمد بن المفضل قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قوله ( حم ) : من حروف أسماء الله .
وقال آخرون : بل هو اسم من أسماء القرآن .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ( حم ) قال
[ ص: 348 ] : اسم من أسماء القرآن . وقال آخرون : هو حروف هجاء .
وقال آخرون : بل هو اسم ، واحتجوا لقولهم ذلك بقول
شريح بن أوفى العبسي :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حم قبل التقدم
ويقول
الكميت :
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب
وحدثت عن
nindex.php?page=showalam&ids=12078معمر بن المثنى أنه قال : قال
يونس - يعني - الجرمي : ومن قال هذا القول فهو منكر عليه ؛ لأن السورة ( حم ) ساكنة الحروف ، فخرجت مخرج التهجي ، وهذه أسماء سور خرجت متحركات ، وإذا سميت سورة بشيء
[ ص: 349 ] من هذه الأحرف المجزومة دخله الإعراب .
والقول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها ، وقد بينا ذلك في قوله : ( الم ) ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع ، إذ كان القول في حم ، وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه - أعني حروف التهجي - قولا واحدا .
وقوله : (
تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ) يقول الله - تعالى ذكره - : من الله العزيز في انتقامه من أعدائه ، العليم بما يعملون من الأعمال وغيرها تنزيل هذا الكتاب . فالتنزيل مرفوع بقوله : ( من الله ) .
وفي قوله : (
غافر الذنب ) وجهان : أحدهما أن يكون بمعنى يغفر ذنوب العباد ، وإذا أريد هذا المعنى كان خفض " غافر " و " قابل " من وجهين ، أحدهما من نية تكرير " من " فيكون معنى الكلام حينئذ : تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، من غافر الذنب ، وقابل التوب ؛ لأن غافر الذنب نكرة ، وليس بالأفصح أن يكون نعتا للمعرفة ، وهو نكرة . والآخر أن يكون أجرى في إعرابه - وهو نكرة - على إعراب الأول كالنعت له ؛ لوقوعه بينه وبين قوله : (
ذي الطول ) وهو معرفة . وقد يجوز أن يكون أتبع إعرابه - وهو نكرة - إعراب الأول ، إذ كان مدحا ، وكان المدح يتبع إعرابه ما قبله أحيانا ، ويعدل به عن إعراب الأول أحيانا بالنصب والرفع كما قال الشاعر :
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبين معاقد الأزر
[ ص: 350 ] وكما قال - جل ثناؤه - (
وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد ) فرفع " فعال " وهو نكرة محضة ، وأتبع إعراب الغفور الودود . والآخر : أن يكون معناه : أن ذلك من صفته تعالى ، إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نزول هذه الآية وفي حال نزولها ، ومن بعد ذلك ، فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على الصحة . وقال : (
غافر الذنب ) ولم يقل الذنوب ؛ لأنه أريد به الفعل ، وأما قوله : (
وقابل التوب ) فإن التوب قد يكون جمع توبة ، كما يجمع الدومة دوما والعومة عوما من عومة السفينة ، كما قال الشاعر :
عوم السفين فلما حال دونهم
وقد يكون مصدر تاب يتوب توبا .
وقد حدثني
محمد بن عبيد المحاربي قال : ثنا
أبو بكر بن عياش ، عن
أبي إسحاق قال : جاء رجل إلى
عمر فقال : إني قتلت ، فهل لي من توبة ؟ قال : نعم ، اعمل ولا تيأس ، ثم قرأ : (
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب ) .
وقوله : (
شديد العقاب ) يقول - تعالى ذكره - : شديد عقابه لمن عاقبه من أهل العصيان له ، فلا تتكلوا على سعة رحمته ، ولكن كونوا منه على حذر ، باجتناب معاصيه ، وأداء فرائضه ، فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والآثام من عفوه ، وقبول توبة من تاب منهم من جرمه ، كذلك لا يؤمنهم من عقابه
[ ص: 351 ] وانتقامه منهم بما استحلوا من محارمه ، وركبوا من معاصيه .
وقوله : (
ذي الطول ) يقول : ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه . يقال منه : إن فلانا لذو طول على أصحابه ، إذا كان ذا فضل عليهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله : (
ذي الطول ) يقول : ذي السعة والغنى .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله (
ذي الطول ) الغنى .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
ذي الطول ) : أي ذي النعم .
وقال بعضهم : الطول : القدرة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد فى قوله (
ذي الطول ) قال : الطول القدرة ، ذاك الطول .
وقوله : (
لا إله إلا هو إليه المصير ) يقول : لا معبود تصلح له العبادة إلا الله العزيز العليم ، الذي صفته ما وصف - جل ثناؤه - فلا تعبدوا شيئا سواه ( إليه المصير ) يقول - تعالى ذكره - : إلى الله مصيركم ومرجعكم - أيها الناس - فإياه فاعبدوا ، فإنه لا ينفعكم شيء عبدتموه عند ذلك سواه .