القول في تأويل قوله تعالى : (
الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون ( 70 )
إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ( 71 )
في الحميم ثم في النار يسجرون ( 72 )
ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون ( 73 )
من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ( 74 ) )
[ ص: 415 ]
يقول - تعالى ذكره - : ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بكتاب الله ، وهو هذا القرآن؛ و " الذين " الثانية في موضع خفض ردا لها على " الذين " الأولى على وجه النعت (
وبما أرسلنا به رسلنا ) يقول : وكذبوا أيضا مع تكذيبهم بكتاب الله بما أرسلنا به رسلنا من إخلاص العبادة لله ، والبراءة مما يعبد دونه من الآلهة والأنداد ، والإقرار بالبعث بعد الممات للثواب والعقاب . وقوله : (
فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل ) ، وهذا تهديد من الله المشركين به؛ يقول - جل ثناؤه - : فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله ، المكذبون بالكتاب حقيقة ما تخبرهم به يا
محمد ، وصحة ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب ، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم . وقرأت قراءة الأمصار : والسلاسل ، برفعها عطفا بها على الأغلال على المعنى الذي بينت . وذكر عن
ابن عباس أنه كان يقرؤه " والسلاسل يسحبون " بنصب السلاسل في الحميم . وقد حكي أيضا عنه أنه كان يقول : إنما هو وهم في السلاسل يسحبون ، ولا يجيز أهل العلم بالعربية خفض الاسم والخافض مضمر . وكان بعضهم يقول في ذلك : لو أن متوهما قال : إنما المعنى : إذ أعناقهم في الأغلال والسلال يسحبون . جاز الخفض في السلاسل على هذا المذهب ، وقال مثله : مما رد إلى المعنى . قول الشاعر :
قد سالم الحيات منه القدما الأفعوان والشجاع الأرقما
فنصب الشجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة ، لأن المعنى : قد سالمت رجله الحيات وسالمتها ، فلما احتاج إلى نصب القافية ، جعل الفعل من القدم واقعا على
[ ص: 416 ] الحيات .
والصواب من القراءة عندنا فى ذلك ما عليه قراء الأمصار ، لإجماع الحجة عليه ، وهو رفع السلاسل عطفا بها على ما في قوله : (
في أعناقهم ) من ذكر الأغلال .
وقوله : ( يسحبون ) يقول : يسحب هؤلاء الذين كذبوا في الدنيا بالكتاب زبانية العذاب يوم القيامة في الحميم ، وهو ما قد انتهى حره ، وبلغ غايته .
وقوله (
ثم في النار يسجرون ) يقول : ثم في نار جهنم يحرقون ، يقول : تسجر بها جهنم : أي توقد بهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قوله : ( يسجرون ) قال : يوقد بهم النار .
حدثنا
محمد . قال : ثنا
أحمد قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي (
ثم في النار يسجرون ) قال : يحرقون في النار .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال . قال
ابن زيد ، في قوله : (
ثم في النار يسجرون ) قال : يسجرون في النار : يوقد عليهم فيها .
وقوله : (
ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله ) يقول : ثم قيل : أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون الله من آلهتكم وأوثانكم حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب ، فإن المعبود يغيث من عبد وخدمه؛ وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعا على ما كان منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطان ، فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا : ضلوا عنا : يقول : عدلوا عنا ، فأخذوا غير طريقنا ، وتركونا في هذا البلاء ، بل ما ضلوا عنا ، ولكنا لم نكن
[ ص: 417 ] ندعو من قبل في الدنيا شيئا : أي لم نكن نعبد شيئا؛ يقول الله - تعالى ذكره - : (
كذلك يضل الله الكافرين ) يقول : كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله من الآلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم ، كذلك يضل الله أهل الكفر به عنه ، وعن رحمته وعبادته ، فلا يرحمهم فينجيهم من النار ، ولا يغيثهم فيخفف عنهم ما هم فيه من البلاء .