القول في
تأويل قوله جل ثناؤه : ( وبالآخرة هم يوقنون ( 4 ) )
قال
أبو جعفر : أما الآخرة فإنها صفة للدار ، كما قال جل ثناؤه (
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) سورة العنكبوت : 64 . وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخرة لأولى كانت قبلها ، كما تقول للرجل : "أنعمت عليك مرة بعد أخرى ، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة " ، وإنما صارت آخرة للأولى ، لتقدم الأولى أمامها . فكذلك الدار الآخرة ، سميت آخرة لتقدم الدار الأولى أمامها ، فصارت التالية لها آخرة . وقد يجوز أن تكون سميت آخرة لتأخرها عن الخلق ، كما سميت الدنيا "دنيا " لدنوها من الخلق .
[ ص: 246 ]
وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنزل إلى نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة ، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين : من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان ، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة . كما : -
291 - حدثنا به
محمد بن حميد ، قال : حدثنا
سلمة ، عن
محمد بن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، (
وبالآخرة هم يوقنون ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، أي ، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ، ويكفرون بما جاءك من ربك .
وهذا التأويل من
ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب ، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل
محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون ، وهم
بمحمد صلى الله عليه مكذبون ، ولما جاء به من التنزيل جاحدون ، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون ، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله : (
الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ) . وأخبر جل ثناؤه عباده : أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان
بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة ، دون من كذب
بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وادعى أنه مصدق بمن قبل
محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل
[ ص: 247 ] وبما جاء به من الكتب . ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين
بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله : (
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم ، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار .