القول في
تأويل قوله تعالى : ( لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ( 13 )
وإنا إلى ربنا لمنقلبون ( 14 ) )
يقول - تعالى ذكره - : كي تستووا على ظهور ما تركبون .
واختلف أهل العربية في وجه توحيد الهاء في قوله : (
على ظهوره ) وتذكيرها ، فقال بعض نحويي
البصرة : تذكيره يعود على ما تركبون ، وما هو مذكر ، كما يقال : عندي من النساء من يوافقك ويسرك ، وقد تذكر الأنعام وتؤنث . وقد قال في موضع آخر : (
مما في بطونه ) وقال في موضع آخر : ( بطونها ) وقال بعض نحويي
الكوفة : أضيفت الظهور إلى الواحد ، لأن ذلك الواحد في معنى جمع بمنزلة الجند والجيش . قال : فإن قيل : فهلا قلت : لتستووا على ظهره ، فجعلت الظهر واحدا إذا أضفته إلى واحد . قلت : إن الواحد فيه معنى الجمع ، فردت الظهور إلى المعنى ، ولم يقل ظهره ، فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحد . وكذلك تقول : قد كثر نساء الجند ، وقلت : ورفع الجند أعينه ولم يقل عينه . قال : وكذلك كل ما أضفت إليه من الأسماء الموصوفة ، فأخرجها على الجمع ، وإذا أضفت إليه اسما في معنى فعل جاز جمعه وتوحيده ، مثل قولك : رفع العسكر صوته ، وأصواته أجود وجاز هذا لأن الفعل لا صورة له في الاثنين إلا الصورة في الواحد .
وقال آخر منهم : قيل : لتستووا على ظهره ، لأنه وصف للفلك ،
[ ص: 575 ] ولكنه وحد الهاء ، لأن الفلك بتأويل جمع ، فجمع الظهور ووحد الهاء ، لأن أفعال كل واحد تأويله الجمع توحد وتجمع مثل : الجند منهزم ومنهزمون ، فإذا جاءت الأسماء خرج على الأسماء لا غير ، فقلت : الجند رجال ، فلذلك جمعت الظهور ووحدت الهاء ، ولو كان مثل الصوت وأشباهه جاز الجند رافع صوته وأصواته .
قوله : (
ثم تذكروا نعمة ربكم ) يقول - تعالى ذكره - : ثم تذكروا نعمة ربكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البر والبحر (
إذا استويتم عليه ) فتعظموه وتمجدوه ، وتقولوا تنزيها لله الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه من هذه الفلك والأنعام ، مما يصفه به المشركون ، وتشرك معه في العبادة من الأوثان والأصنام (
وما كنا له مقرنين ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أبوكريب وعبيد بن إسماعيل الهباري ، قالا ثنا
المحاربي ، عن
عاصم الأحول ، عن
أبي هاشم عن
أبي مجلز قال : ركبت دابة ، فقلت : (
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ) ، فسمعني رجل من أهل البيت؛ قال
أبو كريب والهباري : قال
المحاربي : فسمعت
سفيان يقول : هو
الحسن بن علي رضوان الله تعالى عليهما ، فقال : أهكذا أمرت ؟ قال : قلت : كيف أقول ؟ قال : تقول الحمد لله الذي هدانا الإسلام ، الحمد لله الذي من علينا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، الحمد لله الذي جعلنا في خير أمة أخرجت للناس ، فإذا أنت قد ذكرت نعما عظاما ، ثم يقول بعد ذلك (
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) .
[ ص: 576 ]
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
عبد الرحمن قال : ثنا
سفيان ، عن
أبي هاشم ، عن
أبي مجلز ، أن
الحسن بن علي رضى الله عنه ، رأى رجلا ركب دابة ، فقال : الحمد لله الذي سخر لنا هذا ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) يعلمكم
كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك تقولون : (
بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ) وإذا ركبتم الإبل قلتم : (
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) ويعلمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعا تقولون : اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان إذا ركب قال : اللهم هذا من منك وفضلك ، ثم يقول : (
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) .
وقوله : (
وما كنا له مقرنين ) وما كنا له مطيقين ولا ضابطين ، من قولهم : قد أقرنت لهذا : إذا صرت له قرنا وأطقته ، وفلان مقرن لفلان : أي ضابط له مطيق .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس (
وما كنا له مقرنين ) يقول : مطيقين .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قول الله عز وجل : ( مقرنين ) قال : الإبل والخيل والبغال والحمير .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وما كنا له مقرنين ) أي مطيقين ، لا والله لا في الأيدي ولا في القوة .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة قوله : (
وما كنا له مقرنين ) قال : في القوة .
[ ص: 577 ]
حدثنا
محمد قال : ثنا
أحمد قال : ثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي (
وما كنا له مقرنين ) قال : مطيقين .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قول الله - جل ثناؤه - : (
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ) قال : لسنا له مطيقين ، قال : لا نطيقها إلا بك ، لو لا أنت ما قوينا عليها ولا أطقناها .
وقوله : (
وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) يقول - جل ثناؤه - : وليقولوا أيضا : وإنا إلى ربنا من بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون .