القول في
تأويل قوله تعالى : ( حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ( 38 )
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ( 39 ) )
اختلفت القراء في قراءة قوله : (
حتى إذا جاءنا ) فقرأته عامة قراء
الحجاز سوى
ابن محيصن ، وبعض الكوفيين وبعض الشاميين " حتى إذا جاءنا " على التوحيد بمعنى : حتى إذا جاءنا هذا الذي عشي عن ذكر الرحمن ، وقرينه الذي
[ ص: 606 ] قيض له من الشياطين . وقرأ ذلك عامة قراء
الكوفة والبصرة وابن محيصن : (
حتى إذا جاءنا ) على التوحيد ، بمعنى : حتى إذا جاءنا هذا العاشي من بني آدم عن ذكر الرحمن .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى وذلك أن في خبر الله تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين عند مقدمه عليه فيما أقرنا فيه في الدنيا ، الكفاية للسامع عن خبر الآخر ، إذ كان الخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الآخر ، وهما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة : حتى إذا جاءنا هو وقرينه جميعا .
وقوله : (
يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ) يقول - تعالى ذكره - : قال أحد هذين القرينين لصاحبه الآخر : وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين : أي بعد ما بين المشرق والمغرب ، فغلب اسم أحدهما على الآخر ، كما قيل : شبه القمرين ، وكما قال الشاعر ؟
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
[ ص: 607 ]
وكما قال الآخر ؟
فبصرة الأزد منا والعراق لنا والموصلان ومنا مصر والحرم
يعني :
الموصل والجزيرة ، فقال : الموصلان ، فغلب الموصل .
وقد قيل : عنى بقوله (
بعد المشرقين ) : مشرق الشتاء ، ومشرق الصيف ، وذلك أن الشمس تطلع في الشتاء من مشرق ، وفي الصيف من مشرق غيره؛ وكذلك المغرب تغرب في مغربين مختلفين ، كما قال - جل ثناؤه - : (
رب المشرقين ورب المغربين ) .
وذكر أن هذا قول أحدهما لصاحبه عند لزوم كل واحد منهما صاحبه حتى يورده جهنم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
سعيد الجريري قال : بلغني أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره ، سفع بيده الشيطان ، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار ، فذلك حين يقول :
يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ، فبئس القرين . وأما المؤمن فيوكل به ملك فهو معه حتى قال : إما يفصل بين الناس ، أو نصير إلى ما شاء الله .
وقوله : (
ولن ينفعكم اليوم ) أيها العاشون عن ذكر الله في الدنيا (
إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) يقول : لن يخفف عنكم اليوم من عذاب الله اشتراككم فيه ، لأن لكل واحد منكم نصيبه منه ، و " أن " من قوله ( أنكم ) في موضع رفع لما ذكرت أن معناه : لن ينفعكم اشتراككم .