القول في
تأويل قوله تعالى : ( هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ( 20 )
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ( 21 ) )
يقول - تعالى ذكره - ( هذا ) الكتاب الذي أنزلناه إليك يا
محمد (
بصائر للناس ) يبصرون به الحق من الباطل ، ويعرفون به سبيل الرشاد ، والبصائر : جمع بصيرة .
[ ص: 72 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان
ابن زيد يقول .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله (
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة ) قال : القرآن . قال : هذا كله إنما هو في القلب . قال : والسمع والبصر في القلب . وقرأ (
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) وليس ببصر الدنيا ولا بسمعها .
وقوله : ( وهدى ) يقول : ورشاد (
ورحمة لقوم يوقنون ) بحقيقة صحة هذا القرآن ، وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم . وخص - جل ثناؤه - الموقنين بأنه لهم بصائر وهدى ورحمة ؛ لأنهم الذين انتفعوا به دون من كذب به من أهل الكفر ، فكان عليه عمى وله حزنا .
وقوله (
أم حسب الذين اجترحوا السيئات ) يقول - تعالى ذكره - : أم ظن الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا ، وكذبوا رسل الله ، وخالفوا أمر ربهم ، وعبدوا غيره أن نجعلهم في الآخرة ، كالذين آمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا الصالحات ، فأطاعوا الله ، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، كلا ما كان الله ليفعل ذلك ، لقد ميز بين الفريقين ، فجعل حزب الإيمان في الجنة ، وحزب الكفر في السعير .
كما حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
أم حسب الذين اجترحوا السيئات ) . . . الآية ، لعمري لقد تفرق القوم في الدنيا ، وتفرقوا عند الموت ، فتباينوا في المصير .
وقوله (
سواء محياهم ومماتهم ) اختلفت القراء في قراءة قوله ( سواء ) فقرأت ذلك عامة
قراء المدينة والبصرة وبعض
قراء الكوفة ( سواء ) بالرفع ، على أن الخبر متناه عندهم عند قوله (
كالذين آمنوا ) وجعلوا خبر قوله (
أن نجعلهم ، قوله
كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، ثم ابتدءوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته ، ومحيا الكافر ومماته ، فرفعوا قوله : ( سواء ) على وجه الابتداء بهذا
[ ص: 73 ] المعنى ، وإلى هذا المعنى وجه تأويل ذلك جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله (
سواء محياهم ومماتهم ) قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن ، والكافر في الدنيا والآخرة كافر .
حدثنا
أبو كريب قال : ثنا
الحسن ، عن
شيبان ، عن
ليث في قوله (
سواء محياهم ومماتهم ) قال : بعث المؤمن مؤمنا حيا وميتا ، والكافر كافرا حيا وميتا .
وقد يحتمل الكلام إذا قرئ سواء رفعا وجها آخر غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن
مجاهد وليث ، وهو أن يوجه إلى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم والمؤمنين سواء في الحياة والموت ، بمعنى : أنهم لا يستوون ، ثم يرفع سواء على هذا المعنى ، إذ كان لا ينصرف ، كما يقال : مررت برجل خير منك أبوه ، وحسبك أخوه ، فرفع حسبك ، وخير إذ كانا في مذهب الأسماء ، ولو وقع موقعهما فعل في لفظ اسم لم يكن إلا نصبا ، فكذلك قوله : ( سواء ) . وقرأ ذلك عامة قراء
الكوفة ( سواء ) نصبا ، بمعنى : أحسبوا أن نجعلهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار قد قرأ بكل واحدة منهما أهل العلم بالقرآن صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله ( سواء ) ورفعه ، فقال بعض نحويي
البصرة (
سواء محياهم ومماتهم ) رفع . وقال بعضهم : إن المحيا والممات للكفار كله ، قال (
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ثم قال سواء محيا الكفار ومماتهم : أي محياهم محيا سواء ،
[ ص: 74 ] ومماتهم ممات سواء ، فرفع السواء على الابتداء . قال : ومن فسر المحيا والممات للكفار والمؤمنين ، فقد يجوز في هذا المعنى نصب السواء ورفعه ؛ لأن من جعل السواء مستويا ، فينبغي له في القياس أن يجريه على ما قبله ؛ لأنه صفة ، ومن جعله الاستواء ، فينبغي له أن يرفعه ؛ لأنه اسم ، إلا أن ينصب المحيا والممات على البدل ، وينصب السواء على الاستواء ، وإن شاء رفع السواء إذا كان في معنى مستو ، كما تقول : مررت برجل خير منك أبوه ؛ لأنه صفة لا يصرف والرفع أجود .
وقال بعض نحويي
الكوفة قوله (
سواء محياهم ) بنصب سواء وبرفعه ، والمحيا والممات في موضع رفع بمنزلة قوله : رأيت القوم سواء صغارهم وكبارهم بنصب سواء ؛ لأنه يجعله فعلا لما عاد على الناس من ذكرهم ، قال : وربما جعلت العرب سواء في مذهب اسم بمنزلة حسبك ، فيقولون : رأيت قومك سواء صغارهم وكبارهم . فيكون كقولك : مررت برجل حسبك أبوه ، قال : ولو جعلت مكان سواء مستو لم يرفع ، ولكن نجعله متبعا لما قبله ، مخالفا لسواء ؛ لأن مستو من صفة القوم ، ولأن سواء كالمصدر ، والمصدر اسم . قال : ولو نصبت المحيا والممات كان وجها ، يريد أن نجعلهم سواء في محياهم ومماتهم .
وقال آخرون منهم : المعنى : أنه لا يساوي من اجترح السيئات المؤمن في الحياة ، ولا الممات ، على أنه وقع موقع الخبر ، فكان خبرا لجعلنا ، قال : والنصب للأخبار كما تقول : جعلت إخوتك سواء ، صغيرهم وكبيرهم ، ويجوز أن يرفع ، لأن " سواء " لا ينصرف . وقال : من قال : (
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فجعل كالذين الخبر ، استأنف بسواء ورفع ما بعدها ، وإن نصب المحيا والممات نصب سواء لا غير ، وقد تقدم بياننا الصواب من القول في ذلك .
وقوله (
ساء ما يحكمون ) يقول - تعالى ذكره - : بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم .