[ ص: 229 ] القول في تأويل قوله تعالى : (
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما ( 20 )
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ( 21 ) )
يقول - تعالى ذكره - لأهل بيعة الرضوان : (
وعدكم الله ) أيها القوم (
مغانم كثيرة تأخذونها ) .
اختلف أهل التأويل في هذه المغانم التي ذكر الله أنه وعدها هؤلاء القوم أي المغانم هي ، فقال بعضهم : هي كل مغنم غنمها الله المؤمنين به من أموال أهل الشرك من لدن أنزل هذه الآية على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله (
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ) قال : المغانم الكثيرة التي وعدوا : ما يأخذونها إلى اليوم .
وعلى هذا التأويل يحتمل الكلام أن يكون مرادا بالمغانم الثانية المغانم الأولى ، ويكون معناه عند ذلك ، فأثابهم فتحا قريبا ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وعدكم الله أيها القوم هذه المغانم التي تأخذونها ، وأنتم إليها واصلون عدة ، فجعل لكم الفتح القريب من فتح
خيبر . ويحتمل أن تكون الثانية غير الأولى ، وتكون الأولى من غنائم
خيبر ، والغنائم الثانية التي وعدهموها من غنائم سائر أهل الشرك سواهم .
وقال آخرون : هذه المغانم التي وعد الله هؤلاء القوم هي مغانم
خيبر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله
[ ص: 230 ] (
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ) قال : يوم
خيبر ، قال : كان أبي يقول ذلك .
وقوله (
فعجل لكم هذه ) اختلف أهل التأويل في التي عجلت لهم ، فقال جماعة : غنائم
خيبر والمؤخرة سائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت إلى قيام الساعة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
فعجل لكم هذه ) قال : عجل لكم
خيبر .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله (
فعجل لكم هذه ) وهي
خيبر .
وقال آخرون : بل عنى بذلك الصلح الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين
قريش .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس (
فعجل لكم هذه ) قال : الصلح .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ما قاله
مجاهد ، وهو أن الذي أثابهم الله من مسيرهم ذلك مع الفتح القريب المغانم الكثيرة من مغانم
خيبر ، وذلك أن المسلمين لم يغنموا بعد
الحديبية غنيمة ، ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية إليها من فتح خيبر وغنائمها .
وأما قوله (
وعدكم الله مغانم كثيرة ) فهي سائر المغانم التي غنمهموها الله بعد خيبر ، كغنائم
هوازن ،
وغطفان ،
وفارس ،
والروم .
وإنما قلنا ذلك كذلك دون غنائم
خيبر ، لأن الله أخبر أنه عجل لهم هذه
[ ص: 231 ] التي أثابهم من مسيرهم الذي ساروه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
مكة ، ولما علم من صحة نيتهم في قتال أهلها ، إذ بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يفروا عنه ، ولا شك أن التي عجلت لهم غير التي لم تعجل لهم .
وقوله (
وكف أيدي الناس عنكم ) يقول - تعالى ذكره - لأهل بيعة الرضوان : وكف الله أيدي المشركين عنكم .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين كفت أيديهم عنهم من هم ؟ فقال بعضهم : هم
اليهود كف الله أيديهم عن عيال الذين ساروا من
المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
مكة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وكف أيدي الناس عنكم ) : عن بيوتهم ، وعن عيالهم
بالمدينة حين ساروا إلى
الحديبية وإلى
خيبر ، وكانت
خيبر في ذلك الوجه .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة في قوله (
وكف أيدي الناس عنكم ) قال : كف أيدي الناس عن عيالهم
بالمدينة .
وقال آخرون : بل عني بذلك أيدي
قريش إذ حبسهم الله عنهم ، فلم يقدروا له على مكروه .
والذي قاله
قتادة في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن كف الله أيدي المشركين من
أهل مكة عن
أهل الحديبية قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله (
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ) فعلم بذلك أن الكف الذي ذكره الله تعالى في قوله (
وكف أيدي الناس عنكم ) غير الكف الذي ذكر الله بعد هذه الآية في قوله (
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ) .
[ ص: 232 ]
وقوله (
ولتكون آية للمؤمنين ) يقول : وليكون كفه - تعالى ذكره - أيديهم عن عيالهم آية وعبرة للمؤمنين به فيعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وكلاءتهم في مشهدهم ومغيبهم ، ويتقوا الله في أنفسهم وأموالهم وأهليهم بالحفظ وحسن الولاية ما كانوا مقيمين على طاعته ، منتهين إلى أمره ونهيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
ولتكون آية للمؤمنين ) يقول : وذلك آية للمؤمنين كف أيدي الناس عن عيالهم (
ويهديكم صراطا مستقيما ) يقول : ويسددكم أيها المؤمنون طريقا واضحا لا اعوجاج فيه ، فيبينه لكم ، وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم ، فتتوكلوا عليه في جميعها ، ليحوطكم حياطته إياكم في مسيركم إلى
مكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أنفسكم وأهليكم وأموالكم ، فقد رأيتم أثر فعل الله بكم ، إذ وثقتم في مسيركم هذا .
وقوله (
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ) يقول - تعالى ذكره - ووعدكم أيها القوم ربكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا على فتحها ، قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها لكم .
واختلف أهل التأويل في هذه البلدة الأخرى ، والقرية الأخرى التي وعدهم فتحها التي أخبرهم أنه محيط بها ، فقال بعضهم : هي أرض
فارس والروم ، وما يفتحه المسلمون من البلاد إلى قيام الساعة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى قال : ثنا
عبد الرحمن بن مهدي قال : ثنا
شعبة ، عن
سماك الحنفي ، قال : سمعت
ابن عباس يقول (
وأخرى لم تقدروا عليها )
فارس والروم .
[ ص: 233 ]
قال : ثنا
محمد بن جعفر قال : ثنا
شعبة ، عن
الحكم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى أنه قال في هذه الآية (
وأخرى لم تقدروا عليها ) قال :
فارس والروم .
حدثني
موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15945زيد بن حباب قال : ثنا
شعبة بن الحجاج ، عن
الحكم ، عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله (
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ) قال : حدث عن
الحسن قال : هي
فارس والروم .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن . قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله (
وأخرى لم تقدروا عليها ) ما فتحوا حتى اليوم .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
جرير ، عن
منصور ، عن
الحكم ، عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله (
وأخرى لم تقدروا عليها ) قال :
فارس والروم .
وقال آخرون : بل هي
خيبر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس (
وأخرى لم تقدروا عليها ) . . . الآية ، قال : هي
خيبر .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ ، يقول : أخبرنا
عبيد بن سليمان قال : سمعت
الضحاك ، يقول في قوله (
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ) يعني
خيبر ، بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ، فقال : ولا تمثلوا ولا تغلوا ، ولا تقتلوا وليدا .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله
[ ص: 234 ] (
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ) قال :
خيبر ، قال : لم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها .
حدثنا
ابن حميد قال :
ثنا سلمة ، عن
ابن إسحاق (
وأخرى لم تقدروا عليها ) يعني أهل
خيبر . وقال آخرون : بل هي
مكة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ) كنا نحدث أنها
مكة .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
وأخرى لم تقدروا عليها ) قال : بلغنا أنها
مكة .
وهذا القول الذي قاله
قتادة أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة ، أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها ، ومعقول أنه لا يقال لقوم لم يقدروا على هذه المدينة ، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم ، فأما وهم لم يروموها فتتعذر عليهم فلا يقال : إنهم لم يقدروا عليها .
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه
خيبر لحرب ، ولا وجه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية ، علم أن المعني بقوله (
وأخرى لم تقدروا عليها ) غيرها ، وأنها هي التي قد عالجها ورامها ، فتعذرت فكانت
مكة وأهلها كذلك ، وأخبر الله - تعالى ذكره - نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أنه أحاط بها وبأهلها ، وأنه فاتحها عليهم ، وكان الله على كل ما يشاء من الأشياء ذا قدرة ، لا يتعذر عليه شيء شاءه .