القول في تأويل قوله تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ( 25 ) )
يقول - تعالى ذكره - : هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله ، وصدوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام ، وصدوا الهدي ، معكوفا : يقول : محبوسا عن أن يبلغ محله . فموضع " أن" نصب لتعلقه إن شئت بمعكوف ، وإن شئت بصدوا . وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : وصدوا الهدي معكوفا كراهية أن يبلغ محله .
وعنى بقوله - تعالى ذكره - : ( أن يبلغ محله ) أن يبلغ محل نحره ، وذلك دخول الحرم ، والموضع الذي إذا صار إليه حل نحره ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا ) : أي محبوسا ( أن يبلغ محله ) وأقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ، ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحديبية ، صدهم المشركون ، فصالحهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يرجع من عامه ذلك ، ثم يرجع من العام المقبل ، فيكون بمكة ثلاث ليال ، ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب ، ولا يخرج بأحد من أهلها ، فنحروا الهدي ، وحلقوا ، وقصروا ، حتى إذا كان من العام المقبل ، أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة ، فأقام بها ثلاث ليال ، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردوه ، فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه ، فأنزل الله ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) قال : كان الهدي بذي طوى ، والحديبية خارجة من الحرم ، نزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين غورت قريش عليه الماء .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ) . . . حتى بلغ ( بغير علم ) هذا حين رد محمد وأصحابه أن يدخلوا مكة ، فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ، فكره الله أن يؤذوا أو يوطئوا بغير علم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم .
واختلف أهل التأويل في المعرة التي عناها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني بها الإثم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) فتخرجوا ديته ، فأما إثم فلم يحسبه عليهم . والمعرة : هي المفعلة من العر ، وهو الجرب وإنما المعنى : فتصيبكم من قبلهم معرة تعرون بها ، يلزمكم من أجلها كفارة قتل الخطأ ، وذلك عتق رقبة مؤمنة ، من أطاق ذلك ، ومن لم يطق فصيام شهرين .
وإنما اخترت هذا القول دون القول الذي قاله ابن إسحاق ؛ لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية ، فقال ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) لم يوجب على قاتله خطأ ديته ، فلذلك قلنا : عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة ، و ( أن ) من قوله ( أن تطئوهم ) في موضع رفع ردا على الرجال ؛ لأن معنى الكلام : ولولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة ، ولكنه حال بينكم وبين ذلك ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) يقول : ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها ، وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه .
وقوله ( لو تزيلوا ) يقول : لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم ( لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) يقول : لقتلنا من بقي فيها بالسيف ، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 251 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( لو تزيلوا ) . . . الآية ، إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمع الضحاك يقول في قوله ( لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم ) يعني أهل مكة كان فيهم مؤمنون مستضعفون : يقول الله لولا أولئك المستضعفون لو قد تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما .
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( لو تزيلوا ) لو تفرقوا ، فتفرق المؤمن من الكافر ، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما .