القول في
تأويل قوله تعالى : ( أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ( 3 )
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ( 4 ) )
يقول القائل : لم يجر للبعث ذكر ، فيخبر عن هؤلاء القوم بكفرهم ما دعوا إليه من ذلك ، فما وجه الخبر عنهم بإنكارهم ما لم يدعوا إليه ، وجوابهم عما لم يسألوا عنه . قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فنذكر ما قالوا في ذلك ، ثم نتبعه البيان - إن شاء الله تعالى - فقال في ذلك بعض
نحويي البصرة قال (
أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ) لم يذكر أنه راجع ، وذلك - والله أعلم - لأنه كان على جواب ، كأنه قيل لهم : إنكم ترجعون ، فقالوا (
أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ) وقال بعض
نحويي الكوفة : قوله : (
أئذا متنا وكنا ترابا ) كلام لم يظهر قبله ، ما يكون هذا جوابا له ، ولكن معناه مضمر ، إنما كان والله أعلم : (
ق والقرآن المجيد ) لتبعثن بعد الموت ، فقالوا : أئذا كنا ترابا بعثنا ؟ جحدوا البعث ، ثم قالوا (
ذلك رجع بعيد ) جحدوه أصلا . قوله ( بعيد ) كما تقول للرجل يخطئ في المسألة ، لقد ذهبت مذهبا بعيدا من الصواب : أي أخطأت .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن في هذا الكلام متروكا استغني
[ ص: 328 ] بدلالة ما ذكر عليه من ذكره ، وذلك أن الله دل بخبره عن تكذيب هؤلاء المشركين الذين ابتدأ هذه السورة بالخبر عن تكذيبهم رسوله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - بقوله (
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) على وعيده إياهم على تكذيبهم
محمدا - صلى الله عليه وسلم - فكأنه قال لهم : إذ قالوا منكرين رسالة الله رسوله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - (
هذا شيء عجيب ) ستعلمون - أيها القوم - إذا أنتم بعثتم يوم القيامة ما يكون حالكم في تكذيبكم
محمدا - صلى الله عليه وسلم - وإنكاركم نبوته ، فقالوا مجيبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (
أئذا متنا وكنا ترابا ) نعلم ذلك ، ونرى ما تعدنا على تكذيبك (
ذلك رجع بعيد ) : أي أن ذلك غير كائن ، ولسنا راجعين أحياء بعد مماتنا ، فاستغني بدلالة قوله (
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ) فقال الكافرون (
هذا شيء عجيب ) من ذكر ما ذكرت من الخبر عن وعيدهم .
وفيما حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله (
أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ) قالوا : كيف يحيينا الله ، وقد صرنا عظاما ورفاتا ، وضللنا في الأرض ، دلالة على صحة ما قلنا من أنهم أنكروا البعث إذا توعدوا به .
وقوله (
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) يقول - تعالى ذكره - : قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم بعد مماتهم ، وعندنا كتاب بما تأكل الأرض وتفني من أجسامهم ، ولهم كتاب مكتوب مع علمنا بذلك ، حافظ لذلك كله ، وسماه الله تعالى حفيظا ؛ لأنه لا يدرس ما كتب فيه ، ولا يتغير ولا يتبدل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله (
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) يقول : ما تأكل الأرض من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم .
[ ص: 329 ]
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله (
ما تنقص الأرض منهم ) قال : من عظامهم .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة في قوله (
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) يقول : ما تأكل الأرض منهم .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) قال : يعني الموت ، يقول : من يموت منهم ، أو قال : ما تأكل الأرض منهم إذا ماتوا .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد قال : سمعت
الضحاك يقول : قال الله (
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) يقول : ما أكلت الأرض منهم ونحن عالمون به ، وهم عندي - مع علمي فيهم - في كتاب حفيظ .