القول في تأويل قوله تعالى : (
ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( 31 )
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم )
يقول - تعالى ذكره - ( ولله ) ملك (
ما في السماوات وما في الأرض ) من شيء . وهو يضل من يشاء ، وهو أعلم بهم (
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ) يقول : ليجزي الذين عصوه من خلقه ، فأساءوا بمعصيتهم إياه ، فيثيبهم بها النار (
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) يقول : وليجزي الذين أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة ، فيثيبهم بها .
وقيل : عني بذلك أهل الشرك والإيمان .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=16455عبد الله بن عياش قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم في قول الله (
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا ) المؤمنون .
وقوله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم ) يقول : الذين يبتعدون عن كبائر
[ ص: 532 ] الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها ، وذلك الشرك بالله ، وما قد بيناه في قوله (
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) .
وقوله ( والفواحش ) وهي الزنا وما أشبهه ، مما أوجب الله فيه حدا .
وقوله ( إلا اللمم ) اختلف أهل التأويل في معنى" إلا " في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هي بمعنى الاستثناء المنقطع ، وقالوا : معنى الكلام : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، إلا اللمم الذي ألموا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام ، فإن الله قد عفا لهم عنه ، فلا يؤاخذهم به .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) يقول : إلا ما قد سلف .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : المشركون إنما كانوا بالأمس يعملون معناه ، فأنزل الله عز وجل ( إلا اللمم ) ما كان منهم في الجاهلية . قال : واللمم : الذي ألموا به من تلك الكبائر والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام ، وغفرها لهم حين أسلموا .
حدثني
يعقوب قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11948ابن عياش ، عن
ابن عون ، عن
محمد قال : سأل رجل
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت ، عن هذه الآية (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) فقال : حرم الله عليك الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا
ابن وهب قال : أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=16455عبد الله بن عياش قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم في قول الله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : كبائر الشرك والفواحش : الزنى ، تركوا ذلك
[ ص: 533 ] حين دخلوا في الإسلام ، فغفر الله لهم ما كانوا ألموا به وأصابوا من ذلك قبل الإسلام .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل " إلا " في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن
ابن عباس يقول في تأويل ذلك : لم يؤذن لهم في اللمم ، وليس هو من الفواحش ، ولا من كبائر الإثم ، وقد يستثنى الشيء من الشيء ، وليس منه على ضمير قد كف عنه فمجازه ، إلا أن يلم بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر ، قال : الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
واليعافير : الظباء ، والعيس : الإبل وليسا من الناس ، فكأنه قال : ليس به أنيس ، غير أن به ظباء وإبلا . وقال بعضهم : اليعفور من الظباء الأحمر ، والأعيس : الأبيض .
وقال بنحو هذا القول جماعة من أهل التأويل .
[ ص: 534 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن
معمر ، عن
الأعمش ، عن
أبي الضحى ، أن
ابن مسعود قال : زنى العينين : النظر ، وزنى الشفتين : التقبيل ، وزنى اليدين : البطش ، وزنى الرجلين : المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللمم .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر قال : وأخبرنا
ابن طاوس ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=811795إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدركه ذلك لا محالة ، فزنى العينين النظر ، وزنى اللسان المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
حدثني
أبو السائب قال : ثنا
أبو معاوية ، عن
الأعمش ، عن
مسلم ، عن
مسروق في قوله (
إلا اللمم ) قال : إن تقدم كان زنى ، وإن تأخر كان لمما .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية قال : ثنا
منصور بن عبد الرحمن ، قال : سألت
الشعبي ، عن قول الله (
يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : هو ما دون الزنى ، ثم ذكر لنا عن
ابن مسعود قال : " زنى العينين : ما نظرت إليه ، وزنى اليد : ما لمست ، وزنى الرجل : ما مشت والتحقيق بالفرج .
حدثني
محمد بن معمر قال : ثنا
يعقوب قال : ثنا
وهيب قال : ثنا
عبد الله بن عثمان بن خثيم بن عمرو القاري قال : ثني
عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي قال : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة عن قول الله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : القبلة ، والغمزة ، والنظرة والمباشرة ، إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنى .
وقال آخرون : بل ذلك استثناء صحيح ، ومعنى الكلام : الذين يجتنبون
[ ص: 535 ] كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إلا أن يلم بها ثم يتوب .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
سليمان بن عبد الجبار قال : ثنا
أبو عاصم قال : أخبرنا
زكريا بن إسحاق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار ، عن
عطاء ، عن
ابن عباس (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب ; قال : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3502098
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى قال : ثنا
محمد بن جعفر قال ثنا
شعبة ، عن
منصور ، عن
مجاهد ، أنه قال في هذه الآية (
إلا اللمم ) قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه ، وقال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
حدثني
محمد بن عبد الله بن بزيع قال : ثنا
يونس ، عن
الحسن ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، أراه رفعه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3502099 ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : اللمة من الزنى ، ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من السرقة ، ثم يتوب ولا يعود ; واللمة من شرب الخمر ، ثم يتوب ولا يعود ، قال : فتلك الإلمام .
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
ابن أبي عدي ، عن
عوف ، عن
الحسن ،
[ ص: 536 ] في قول الله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : اللمة من الزنى أو السرقة ، أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
حدثني
يعقوب قال : ثنا
ابن أبي عدي عن
عوف ، عن
الحسن في قول الله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : اللمة من الزنى ، أو السرقة ، أو شرب الخمر ثم لا يعود .
حدثني
يعقوب قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
أبي رجاء ، عن
الحسن في قوله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : قد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون : هذا الرجل يصيب اللمة من الزنا ، واللمة من شرب الخمر ، فيخفيها فيتوب منها .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
عطاء ، عن
ابن عباس ( إلا اللمم ) يلم بها فى الحين ، قلت الزنى ، قال : الزنى ثم يتوب .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور قال : قال
معمر : كان
الحسن يقول في اللمم : تكون اللمة من الرجل : الفاحشة ثم يتوب .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن إسماعيل ، عن
أبي صالح قال : الزنى ثم يتوب .
قال : ثنا
مهران ، عن
أبي جعفر ، عن
قتادة ، عن
الحسن (
إلا اللمم ) قال : أن يقع الوقعة ثم ينتهي .
حدثنا
أبو كريب قال : ثنا
ابن عيينة ، عن
عمرو ، عن
عطاء ، عن
ابن عباس قال : اللمم : الذي تلم المرة .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد قال : أخبرني
يحيى بن أيوب ، عن
المثنى بن الصباح ، عن
عمرو بن شعيب ، أن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص قال : اللمم : ما دون الشرك .
[ ص: 537 ]
حدثنا
ابن بشار قال : ثنا
أبو عامر قال : ثنا
مرة ، عن
عبد الله بن القاسم في قوله (
إلا اللمم ) قال : اللمة يلم بها من الذنوب .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
جرير ، عن
منصور ، عن
مجاهد في قوله (
إلا اللمم ) قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه . قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
وقال آخرون ممن وجه معنى" إلا " إلى الاستثناء المنقطع : اللمم : هو دون حد الدنيا وحد الآخرة ، قد تجاوز الله عنه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
جابر ، عن
عطاء ، عن
ابن الزبير ( إلا اللمم ) قال : ما بين الحدين ، حد الدنيا ، وعذاب الآخرة .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى قال : ثنا
محمد بن جعفر ، عن
شعبة ، عن
الحكم ، عن
ابن عباس أنه قال : اللمم : ما دون الحدين : حد الدنيا والآخرة .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى قال : ثنا
ابن أبي عدي ، عن
شعبة ، عن
الحكم وقتادة ، عن
ابن عباس بمثله ، إلا أنه قال : حد الدنيا ، وحد الآخرة .
حدثني
يعقوب قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية قال : أخبرنا
شعبة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14152الحكم بن عتيبة قال : قال
ابن عباس : اللمم ما دون الحدين ، حد الدنيا وحد الآخرة .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) قال : كل شيء بين الحدين ، حد الدنيا وحد الآخرة تكفره الصلوات ، وهو اللمم ، وهو دون كل موجب ; فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا; وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار ، وأخر عقوبته إلى الآخرة .
[ ص: 538 ]
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
يحيى قال : ثنا
الحسين ، عن
يزيد ، عن
عكرمة في قوله : ( إلا اللمم ) يقول : ما بين الحدين ، كل ذنب ليس فيه حد في الدنيا ولا عذاب في الآخرة ، فهو اللمم .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) واللمم : ما كان بين الحدين لم يبلغ حد الدنيا ولا حد الآخرة ، موجبة قد أوجب الله لأهلها النار ، أو فاحشة يقام عليه الحد في الدنيا .
وحدثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
أبي جعفر ، عن
قتادة قال : قال بعضهم : اللمم : ما بين الحدين : حد الدنيا ، وحد الآخرة .
حدثنا
أبو كريب ويعقوب قالا : ثنا
إسماعيل بن إبراهيم قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة ، عن
قتادة عن
ابن عباس قال : اللمم : ما بين الحدين : حد الدنيا ، وحد الآخرة .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان قال :
قال الضحاك ( إلا اللمم ) قال : كل شيء بين حد الدنيا والآخرة فهو اللمم يغفره الله .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال " إلا " بمعنى الاستثناء المنقطع ، ووجه معنى الكلام إلى (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) بما دون كبائر الإثم ، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، فإن ذلك معفو لهم عنه ، وذلك عندي نظير قوله جل ثناؤه : (
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) فوعد جل ثناؤه باجتناب الكبائر ، العفو عما دونها من السيئات ، وهو اللمم الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=811043العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " ، وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج ، وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه ، والله جل ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه ، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واللمم في كلام العرب :
[ ص: 539 ] المقاربة للشيء ، ذكر
الفراء أنه سمع العرب تقول : ضربه ما لمم القتل يريدون ضربا مقاربا للقتل . قال : وسمعت من آخر : ألم يفعل في معنى : كاد يفعل .