القول في تأويل قوله تعالى : (
وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ( 3 )
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ( 4 )
حكمة بالغة فما تغن النذر ( 5 ) )
يقول - تعالى ذكره - : وكذب هؤلاء المشركون من
قريش بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها ، وعاينوا الدلالة على صحتها برؤيتهم القمر منفلقا فلقتين (
واتبعوا أهواءهم ) يقول : وآثروا اتباع ما دعتهم إليه أهواء أنفسهم من تكذيب ذلك على التصديق بما قد أيقنوا صحته من نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وحقيقة ما جاءهم به من ربهم .
وقوله (
وكل أمر مستقر ) يقول - تعالى ذكره - : وكل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، ومتناه نهايته ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار .
[ ص: 572 ]
كما حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله (
وكل أمر مستقر ) : أي بأهل الخير الخير ، وبأهل الشر الشر .
وقوله (
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ) يقول - تعالى ذكره - : ولقد جاء هؤلاء المشركين من
قريش الذين كذبوا بآيات الله ، واتبعوا أهواءهم من
الأخبار عن الأمم السالفة ، الذين كانوا من تكذيب رسل الله على مثل الذي هم عليه ، وأحل الله بهم من عقوباته ما قص في هذا القرآن ما فيه لهم مزدجر ، يعني : ما يردعهم ، ويزجرهم عما هم عليه مقيمون ، من التكذيب بآيات الله ، وهو مفتعل من الزجر .
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله ( مزدجر ) قال : منتهى .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله (
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ) : أي هذا القرآن .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان (
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ) قال : المزدجر : المنتهى .
وقوله (
حكمة بالغة ) يعني بالحكمة البالغة : هذا القرآن ، ورفعت الحكمة ردا على" ما " التي في قوله (
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ) .
وتأويل الكلام : ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدجر ، حكمة بالغة . ولو رفعت الحكمة على الاستئناف كان جائزا ، فيكون معنى الكلام حينئذ : ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدجر ، ذلك حكمة بالغة ، أو هو حكمة بالغة فتكون الحكمة كالتفسير لها .
[ ص: 573 ]
وقوله (
فما تغن النذر ) وفي" ما " التي في قوله (
فما تغن النذر ) وجهان : أحدهما أن تكون بمعنى الجحد ، فيكون إذا وجهت إلى ذلك معنى الكلام : فليست تغني عنهم النذر ، ولا ينتفعون بها ؛ لإعراضهم عنها وتكذيبهم بها . والآخر : أن تكون بمعنى : أنى ، فيكون معنى الكلام إذا وجهت إلى ذلك : فأي شيء تغني عنهم النذر . والنذر : جمع نذير ، كالجدد : جمع جديد ، والحصر : جمع حصير .