القول في تأويل قوله تعالى : (
فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ( 6 )
خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ( 7 )
مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر ( 8 ) )
يعني - تعالى ذكره - بقوله (
فتول عنهم ) : فأعرض يا
محمد عن هؤلاء المشركين من قومك ، الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر ، فإنهم يوم يدعو داعي الله إلى موقف القيامة ، وذلك هو الشيء النكر (
خشعا أبصارهم ) يقول : ذليلة أبصارهم خاشعة ، لا ضرر بها (
يخرجون من الأجداث ) وهي جمع جدث ، وهي القبور ، وإنما وصف جل ثناؤه بالخشوع الأبصار دون سائر أجسامهم ، والمراد به جميع أجسامهم ، لأن أثر ذلة كل ذليل ، وعزة كل عزيز ، تتبين في ناظريه دون سائر جسده ، فلذلك خص الأبصار بوصفها بالخشوع .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (
خشعا أبصارهم ) قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : خاشعا أبصارهم : أي ذليلة أبصارهم .
[ ص: 574 ]
واختلفت القراء في قراءة قوله : خاشعا أبصارهم فقرأ ذلك عامة
قراء المدينة وبعض المكيين الكوفيين ( خشعا ) بضم الخاء وتشديد الشين ، بمعنى خاشع ; وقرأه عامة
قراء الكوفة وبعض
البصريين خاشعا أبصارهم بالألف على التوحيد اعتبارا بقراءة
عبد الله ، وذلك أن ذلك في قراءة
عبد الله خاشعة أبصارهم ، وألحقوه وهو بلفظ الاسم في التوحيد ، إذ كان صفة بحكم " فعل " " ويفعل " في التوحيد إذا تقدم الأسماء ، كما قال الشاعر :
وشباب حسن أوجههم من إياد بن نزار بن معد
فوحد حسنا وهو صفة للأوجه ، وهي جمع ; وكما قال الآخر :
يرمي الفجاج بها الركبان معترضا أعناق بزلها مرخى لها الجدل
فوحد معترضا ، وهي من صفة الأعناق ، والجمع والتأنيث فيه جائزان على ما بينا .
وقوله (
كأنهم جراد منتشر ) يقول - تعالى ذكره - : يخرجون من قبورهم كأنهم في انتشارهم وسعيهم إلى موقف الحساب جراد منتشر .
[ ص: 575 ]
وقوله (
مهطعين إلى الداعي ) يقول : مسرعين بنظرهم قبل داعيهم إلى ذلك الموقف . وقد بينا معنى الإهطاع بشواهده المغنية عن الإعادة ، ونذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الرواية .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
جرير ، عن
مغيرة ، عن
عثمان بن يسار ، عن
تميم بن حذلم قوله : (
مهطعين إلى الداعي ) قال : هو التحميج .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سفيان ، عن
سفيان ، عن أبيه ، عن
أبي الضحى (
مهطعين إلى الداعي ) قال : التحميج .
قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان (
مهطعين إلى الداعي ) قال : هكذا أبصارهم شاخصة إلى السماء .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله (
مهطعين إلى الداعي ) : أي عامدين إلى الداعي .
حدثني
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثنا
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله ( مهطعين ) يقول : ناظرين .
وقوله (
يقول الكافرون هذا يوم عسر ) يقول - تعالى ذكره - : يقول الكافرون بالله يوم يدع الداعي إلى شيء نكر : هذا يوم عسر . وإنما وصفوه بالعسر لشدة أهواله وبلباله .