القول في تأويل قوله تعالى (
إن الصفا والمروة من شعائر الله )
قال
أبو جعفر : "والصفا " جمع "صفاة " ، وهي الصخرة الملساء ، ومنه قول
الطرماح :
أبى لي ذو القوى والطول ألا يؤبس حافر أبدا صفاتي
[ ص: 225 ]
وقد قالوا إن "الصفا " واحد ، وأنه يثنى "صفوان " ، ويجمع "أصفاء " و"صفيا ، وصفيا " ، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز
كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي
وقالوا : هو نظير "عصا وعصي [ وعصي ، وأعصاء ] ، ورحا ورحي [ ورحي ] وأرحاء " .
وأما "المروة " ، فإنها الحصاة الصغيرة ، يجمع قليلها "مروات " ، وكثيرها "المرو " ، مثل "تمرة وتمرات وتمر " ، قال
الأعشى ميمون بن قيس :
[ ص: 226 ] وترى بالأرض خفا زائلا فإذا ما صادف المرو رضح
يعني ب "المرو " : الصخر الصغار ، ومن ذلك قول
أبي ذؤيب الهذلي :
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشرق كل يوم تقرع
ويقال "
المشقر " .
وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله : "إن الصفا والمروة " ، في هذا الموضع : الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه ، دون سائر الصفا والمرو . ولذلك أدخل فيهما "الألف واللام " ، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين ، دون سائر الأصفاء والمرو .
وأما قوله : "من شعائر الله " ، فإنه يعني : من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعرا يعبدونه عندها ، إما بالدعاء ، وإما بالذكر ، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها . ومنه قول
الكميت :
نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقرب
[ ص: 227 ]
وكان
مجاهد يقول في الشعائر بما : -
2332 - حدثني به
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : "
إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال : من الخبر الذي أخبركم عنه .
2333 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله .
فكأن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهدا كان يرى أن الشعائر ، إنما هو جمع "شعيرة " ، من إشعار الله عباده أمر
الصفا والمروة ، وما عليهم في الطواف بهما . فمعناه : إعلامهم ذلك .
وذلك تأويل من المفهوم بعيد . وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله : "
إن الصفا والمروة من شعائر الله " عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنها لهم ، وأمر بها خليله
إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، إذ سأله أن يريه مناسك الحج . وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر ، فإنه مراد به الأمر . لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة
إبراهيم عليه السلام ، فقال له : (
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) [ سورة النحل : 123 ] ، وجعل تعالى ذكره
إبراهيم إماما لمن بعده . فإذ كان صحيحا أن الطواف والسعي بين
الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج ، فمعلوم أن
إبراهيم صلى الله
[ ص: 228 ] عليه وسلم قد عمل به وسنه لمن بعده ، وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه ، فعليهم العمل بذلك ، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم .