القول في تأويل قوله تعالى : (
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ( 28 ) )
يقول - تعالى ذكره - : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله - من أهل الكتابين التوراة والإنجيل - خافوا الله بأداء طاعته ، واجتناب معاصيه ، وآمنوا برسوله
محمد - صلى الله عليه وسلم - .
كما حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي ، ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ( ياأيها
الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ) يعني : الذين آمنوا من أهل الكتاب .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد قال :
[ ص: 208 ] سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ) يعني : الذين آمنوا من أهل الكتاب .
وقوله : (
يؤتكم كفلين من رحمته ) يعطكم ضعفين من الأجر ؛ لإيمانكم
بعيسى - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبل
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إيمانكم
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين بعث نبيا . وأصل الكفل : الحظ . وأصله : ما يكتفل به الراكب ، فيحبسه ويحفظه عن السقوط ، يقول : يحصنكم هذا الكفل من العذاب ، كما يحصن الكفل الراكب من السقوط .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أبو عمار المروزي قال : ثنا
الفضل بن موسى ، عن
سفيان ، عن
عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
يؤتكم كفلين من رحمته ) قال : أجرين لإيمانهم
بعيسى - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم بالتوراة والإنجيل ، وإيمانهم
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم به .
قال : ثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
يؤتكم كفلين من رحمته ) قال : أجرين إيمانهم
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإيمانهم
بعيسى - صلى الله عليه وسلم - والتوراة والإنجيل .
وبه عن
عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس وهارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن
ابن عباس (
يؤتكم كفلين من رحمته ) قال : أجرين .
حدثنا
علي قال : ثنا
أبو صالح قال : ثنا
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله : (
يؤتكم كفلين من رحمته ) يقول : ضعفين .
[ ص: 209 ]
قال : ثنا
مهران قال : ثنا
يعقوب ، عن
جعفر بن أبي المغيرة ، عن
سعيد بن جبير قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -
جعفرا في سبعين راكبا إلى
النجاشي يدعوه ، فقدم عليه ، فدعاه فاستجاب له وآمن به . فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن قد آمن به من أهل مملكته - وهم أربعون رجلا - : ائذن لنا ، فنأتي هذا النبي فنسلم به ، ونساعد هؤلاء في البحر ، فإنا أعلم بالبحر منهم . فقدموا مع
جعفر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تهيأ النبي - صلى الله عليه وسلم - لوقعة
أحد فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدة الحال ، استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : يا نبي الله إن لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة ، فإن أذنت لنا انصرفنا ، فجئنا بأموالنا ، وواسينا المسلمين بها ، فأذن لهم ، فانصرفوا ، فأتوا بأموالهم ، فواسوا بها المسلمين ، فأنزل الله فيهم (
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) . . . . إلى قوله : (
ومما رزقناهم ينفقون ) ، فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب - ممن لم يؤمن - بقوله : (
يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) فخروا على المسلمين فقالوا : يا معشر المسلمين ، أما من آمن منا بكتابكم وكتابنا ، فله أجره مرتين ، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم ، فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله (
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ) ، فجعل لهم أجرهم ، وزادهم النور والمغفرة . ثم قال " لكيلا يعلم أهل الكتاب " . وهكذا قرأها
سعيد بن جبير " لكيلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء " .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله : (
يؤتكم كفلين من رحمته ) قال : ضعفين .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس (
يؤتكم كفلين من رحمته ) قال : والكفلان أجران بإيمانهم الأول ، وبالكتاب الذي جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 210 ]
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ) يعني : الذين آمنوا من أهل الكتاب ، (
يؤتكم كفلين من رحمته ) يقول : أجرين بإيمانكم بالكتاب الأول ، والذي جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
يؤتكم كفلين من رحمته ) قال : أجرين أجر الدنيا ، وأجر الآخرة .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا حكام ، عن
سفيان قال : ثنا
عنبسة ، عن
أبي إسحاق ، عن
أبي الأحوص عن
أبي موسى (
يؤتكم كفلين من رحمته ) قال : الكفلان : ضعفان من الأجر بلسان
الحبشة .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
الشعبي قال : إن الناس يوم القيامة على أربع منازل : رجل كان مؤمنا
بعيسى ، فآمن
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فله أجران . ورجل كان كافرا
بعيسى ، فآمن
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فله أجر . ورجل كان كافرا
بعيسى ، فكفر
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فباء بغضب على غضب . ورجل كان كافرا
بعيسى من مشركي العرب ، فمات بكفره قبل
محمد فباء بغضب .
حدثني
العباس بن الوليد قال : أخبرني أبي قال : سألت
سعيد بن عبد العزيز ، عن الكفل كم هو ؟ قال : ثلاثمائة وخمسون حسنة ، والكفلان : سبعمائة حسنة . قال
سعيد : سأل
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حبرا من أحبار
اليهود : كم أفضل ما ضعفت لكم الحسنة ؟ قال : كفل ثلاثمائة وخمسون حسنة . قال : فحمد الله
عمر على أنه أعطانا كفلين . ثم ذكر
سعيد قول الله - عز وجل - في سورة الحديد (
يؤتكم كفلين من رحمته ) ، فقلت له : الكفلان في الجمعة مثل هذا ؟ قال : نعم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 211 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يعقوب قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر بن راشد ، عن
فراس ، عن
الشعبي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11935أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811076 " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل آمن بالكتاب الأول والكتاب الآخر ، ورجل كانت له أمة فأدبها وأحسن تأديبها ، ثم أعتقها فتزوجها ، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ، ونصح لسيده " .
حدثني
يعقوب قال : ثنا
ابن أبي زائدة قال : ثني
صالح بن صالح الهمداني ، عن
عامر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11935أبي بردة بن أبي موسى ، عن
أبي موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى قال : ثني
عبد الصمد ، قال ثنا
شعبة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16212صالح بن صالح ، سمع
الشعبي يحدث ، عن
أبي بردة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .
حدثني
محمد بن عبد الحكم قال : أخبرنا
إسحاق بن الفرات ، عن
يحيى بن أيوب قال : قال
يحيى بن سعيد : أخبرنا
نافع ، أن
عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811808 " إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس ، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر عمالا فقال : من يعمل من بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، ألا فعملت اليهود ثم قال : من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ، ألا فعملت النصارى ، ثم قال : من يعمل من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين ، ألا فعملتم " .
حدثني
علي بن سهل قال : ثنا
مؤمل قال : ثنا
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16430عبد الله بن دينار ، أنه سمع
ابن عمر يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811077 " مثل هذه الأمة - أو قال أمتي - ومثل اليهود والنصارى ، كمثل رجل قال : من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟ قالت اليهود : [ ص: 212 ] نحن ، فعملوا . قال : فمن يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط ؟ قالت النصارى : نحن ، فعملوا . وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل على قيراطين ، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل أجرا ، قال هل ظلمتكم من أجوركم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : فذاك فضلي أوتيه من أشاء " .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : أخبرني
الليث وابن لهيعة ، عن
سليمان بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن عبد الرحمن ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=481أبي أمامة الباهلي أنه قال : شهدت خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حجة الوداع ، فقال قولا كثيرا حسنا جميلا وكان فيها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811078 " من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين ، وله مثل الذي لنا ، وعليه مثل الذي علينا ، ومن أسلم من المشركين فله أجره ، وله الذي لنا ، وعليه مثل الذي علينا " .
وقوله : (
ويجعل لكم نورا تمشون به ) : اختلف أهل التأويل في الذي عني به النور في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني به القرآن .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أبو عمار المروزي قال : ثنا
الفضل بن موسى ، عن
سفيان ، عن
عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
ويجعل لكم نورا تمشون به ) قال : الفرقان واتباعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
ويجعل لكم نورا تمشون به ) قال : الفرقان ، واتباعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
حدثنا
أبو كريب ،
وأبو هشام قالا : ثنا
يحيى بن يمان ، عن
سفيان ، عن
عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
ويجعل لكم نورا تمشون به ) قال : القرآن .
[ ص: 213 ]
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
عطاء ، عن
سعيد مثله .
وقال آخرون : عني بالنور في هذا الموضع : الهدى .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : (
تمشون به ) قال : هدى .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نورا يمشون به . والقرآن - مع اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم - نور لمن آمن بهما وصدقهما ، وهدى لأن من آمن بذلك فقد اهتدى .
وقوله : ( ويغفر لكم ) يقول : ويصفح لكم عن ذنوبكم ، فيسترها عليكم ، ( والله غفور رحيم ) يقول - تعالى ذكره - : والله ذو مغفرة ورحمة .