القول في تأويل قوله تعالى : (
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ( 11 ) )
يقول - تعالى ذكره - : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله (
إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس ) يعني بقوله : تفسحوا : توسعوا من قولهم مكان فسيح إذا كان واسعا .
واختلف أهل التأويل في المجلس الذي أمر الله المؤمنين بالتفسح فيه . فقال بعضهم : ذلك كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله : (
تفسحوا في المجالس ) قال : مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقال ذاك خاصة .
حدثنا
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، عن
ابن أبي نجيح ،
[ ص: 244 ] عن
مجاهد مثله .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس ) الآية . كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : أخبرنا
عبيد قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس ) قال : كان هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن حوله خاصة . يقول : استوسعوا حتى يصيب كل رجل منكم مجلسا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي - أيضا - مقاعد للقتال .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة في قوله : (
تفسحوا في المجالس ) قال : كان الناس يتنافسون في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل لهم : (
إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا ) .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قول الله : (
إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ) قال : هذا مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان الرجل يأتي فيقول : افسحوا لي رحمكم الله فيضن كل أحد منهم بقربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم الله بذلك ، ورأى أنه خير لهم .
وقال آخرون : بل عني بذلك في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله :
[ ص: 245 ] (
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ) قال : ذلك في مجلس القتال .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس ، ولم يخصص بذلك مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - دون مجلس القتال ، وكلا الموضعين يقال له مجلس ، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومجالس القتال .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار " تفسحوا في المجلس " على التوحيد ، غير
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري وعاصم ، فإنهما قرأا ذلك (
في المجالس ) على الجماع . وبالتوحيد قراءة ذلك عندنا لإجماع الحجة من القراء عليه .
وقوله : ( فافسحوا ) يقول : فوسعوا ، (
يفسح الله لكم ) يقول : يوسع الله منازلكم في الجنة ، (
وإذا قيل انشزوا فانشزوا ) يقول - تعالى ذكره - : وإذا قيل ارتفعوا ، وإنما يراد بذلك : وإذا قيل لكم قوموا إلى قتال عدو ، أو صلاة ، أو عمل خير ، أو تفرقوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقوموا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس (
وإذا قيل انشزوا فانشزوا ) إلى (
والله بما تعملون خبير ) قال : إذا قيل : انشزوا فانشزوا إلى الخير والصلاة .
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : ( فانشزوا ) قال : إلى كل خير ، قتال عدو ، أو أمر بالمعروف ، أو حق ما كان .
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا ) يقول : إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا . وقال
الحسن : هذا كله في الغزو .
حدثت عن
الحسين قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
وإذا قيل انشزوا فانشزوا ) : كان إذا نودي إلى الصلاة تثاقل رجال ، فأمرهم الله إذا نودي للصلاة أن يرتفعوا إليها ، يقوموا إليها .
وحدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
وإذا قيل انشزوا فانشزوا ) قال : انشزوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا في بيته إذا قيل انشزوا ، فارتفعوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن له حوائج ، فأحب كل رجل منهم أن يكون آخر عهده برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (
وإذا قيل انشزوا فانشزوا ) .
وإنما اخترت التأويل الذي قلت في ذلك ؛ لأن الله - عز وجل - أمر المؤمنين إذا قيل لهم انشزوا أن ينشزوا ، فعم بذلك الأمر جميع معاني النشوز من الخيرات ، فذلك على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة
قراء المدينة ( فانشزوا ) بضم الشين . وقرأ ذلك عامة
قراء الكوفة والبصرة بكسرها .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان بمنزلة يعكفون ويعكفون ، ويعرشون ويعرشون ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب .
قوله : (
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) يقول - تعالى ذكره - : يرفع الله المؤمنين منكم - أيها القوم - بطاعتهم ربهم ، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا ، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها ، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات ، إذا عملوا بما أمروا به .
كما حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله :
[ ص: 247 ] (
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) إن بالعلم لأهله فضلا وإن له على أهله حقا ، ولعمري للحق عليك أيها العالم فضل ، والله معطي كل ذي فضل فضله .
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=17098مطرف بن عبد الله بن الشخير يقول : فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع .
وكان
عبد الله بن مطرف يقول : إنك لتلقى الرجلين أحدهما أكثر صوما وصلاة وصدقة ، والآخر أفضل منه بونا بعيدا ، قيل له : وكيف ذاك ؟ فقال : هو أشدهما ورعا لله عن محارمه .
حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به .
وقوله : ( والله بما تعملون خبير ) يقول - تعالى ذكره - : والله بأعمالكم - أيها الناس - ذو خبرة ، لا يخفى عليه المطيع منكم ربه من العاصي ، وهو مجاز جميعكم بعمله . المحسن بإحسانه ، والمسيء بالذي هو أهله ، أو يعفو .