القول في تأويل
قوله تعالى : ( كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ( 15 )
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ( 16 ) )
يقول - تعالى ذكره - : مثل هؤلاء
اليهود من
بني النضير والمنافقين فيما الله صانع بهم من إحلال عقوبته بهم (
كمثل الذين من قبلهم ) يقول : كشبههم .
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بالذين من قبلهم ، فقال بعضهم : عني بذلك
بنو قينقاع .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد ، عن
عكرمة أو
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قوله : (
كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ) يعني :
بني قينقاع .
وقال آخرون : عني بذلك مشركو
قريش ببدر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : (
كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ) قال : كفار قريش .
[ ص: 294 ]
وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : إن الله - عز وجل - مثل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب مما هو مذيقهم من نكاله بالذين من قبلهم من مكذبي رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذين أهلكهم بسخطه ، وأمر
بني قينقاع ووقعة
بدر كانا قبل جلاء
بني النضير ، وكل أولئك قد ذاقوا وبال أمرهم ، ولم يخصص الله - عز وجل - منهم بعضا في تمثيل هؤلاء بهم دون بعض ، وكل ذائق وبال أمره ، فمن قربت مدته منهم قبلهم ، فهم ممثلون بهم فيما عنوا به من المثل .
وقوله : (
ذاقوا وبال أمرهم ) يقول : نالهم عقاب الله على كفرهم به .
وقوله : (
ولهم عذاب أليم ) يقول : ولهم في الآخرة مع ما نالهم في الدنيا من الخزي عذاب أليم ، يعني : موجع .
وقوله : (
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين )
يقول - تعالى ذكره - : مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا
اليهود من
النضير النصرة إن قوتلوا ، أو الخروج معهم إن أخرجوا ، ومثل
النضير في غرورهم إياهم بإخلافهم الوعد ، وإسلامهم إياهم عند شدة حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم إياهم كمثل الشيطان الذي غر إنسانا ، ووعده على اتباعه وكفره بالله النصرة عند الحاجة إليه ، فكفر بالله واتبعه وأطاعه ، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه ، وقال له : (
إني أخاف الله رب العالمين ) في نصرتك .
وقد اختلف أهل التأويل في الإنسان الذي قال الله - جل ثناؤه - (
إذ قال للإنسان اكفر ) هو إنسان بعينه ، أم أريد به المثل لمن فعل الشيطان ذلك به ، فقال بعضهم : عني بذلك إنسان بعينه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
خلاد بن أسلم قال : ثنا
النضر بن شميل قال : أخبرنا
شعبة ، عن
أبي إسحاق قال : سمعت
عبد الله بن نهيك قال : سمعت
عليا رضي الله عنه يقول : إن راهبا تعبد ستين سنة ، وإن الشيطان أراده فأعياه ، فعمد إلى
[ ص: 295 ] امرأة فأجنها ، ولها إخوة ، فقال لإخوتها : عليكم بهذا القس فيداويها ، فجاءوا بها قال : فداواها ، وكانت عنده فبينما هو يوما عندها إذا أعجبته ، فأتاها فحملت ، فعمد إليها فقتلها ، فجاء إخوتها ، فقال الشيطان للراهب : أنا صاحبك ، إن أعييتني ، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجك مما صنعت بك ، اسجد لي سجدة ، فسجد له فلما سجد له قال : إني بريء منك ، (
إني أخاف الله رب العالمين ) فذلك قوله : (
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ) .
حدثني
يحيى بن إبراهيم المسعودي قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن
الأعمش ، عن
عمارة ، عن
عبد الرحمن بن زيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود في هذه الآية (
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ) قال : كانت امرأة ترعى الغنم ، وكان لها أربعة إخوة ، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب قال : فنزل الراهب ففجر بها ، فحملت ، فآتاه الشيطان ، فقال له : اقتلها ثم ادفنها ، فإنك رجل مصدق يسمع كلامك ، فقتلها ثم دفنها . قال : فأتى الشيطان إخوتها في المنام ، فقال لهم : إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم فلما أحبلها قتلها ، ثم دفنها في مكان كذا وكذا فلما أصبحوا قال رجل منهم : والله لقد رأيت البارحة رؤيا وما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا : لا بل قصها علينا قال : فقصها ، فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك قالوا : فما هذا إلا لشيء ، فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب ، فأتوه فأنزلوه ، ثم انطلقوا به ، فلقيه الشيطان فقال : إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي سجدة واحدة وأنا أنجيك مما أوقعتك فيه ، قال : فسجد له فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه ، وأخذ فقتل .
حدثني
محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : (
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر ) . . . إلى ( وذلك جزاء الظالمين ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس : كان راهب من بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته ، وكان يؤتى من كل أرض فيسأل عن الفقه ، وكان عالما ، وإن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت حسنة من أحسن الناس ، وإنهم أرادوا أن يسافروا ، فكبر عليهم أن يخلفوها ضائعة ، فجعلوا يأتمرون ما يفعلون بها فقال أحدهم : أدلكم على من تتركونها عنده ؟ قالوا : من هو ؟ قال : راهب بني إسرائيل ، إن ماتت قام عليها ، وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه فعمدوا إليه فقالوا : إنا نريد السفر ، ولا نجد أحدا أوثق فى أنفسنا ، ولا أحفظ لما ولي منك لما جعل عندك ، فإن رأيت أن نجعل أختنا عندك فإنها ضائعة شديدة الوجع ، فإن ماتت فقم عليها ، وإن عاشت فأصلح إليها حتى نرجع ، فقال : أكفيكم - إن شاء الله - فانطلقوا فقام عليها فداواها حتى برأت ، وعاد إليها حسنها ، فاطلع إليها فوجدها متصنعة ، فلم يزل به الشيطان حتى يزين له أن يقع عليها حتى وقع عليها ، فحملت ، ثم ندمه الشيطان فزين له قتلها قال : إن لم تقتلها افتضحت وعرف شبهك في الولد ، فلم يكن لك معذرة ، فلم يزل به حتى قتلها فلما قدم إخوتها سألوه ما فعلت ؟ قال : ماتت فدفنتها ، قالوا : قد أحسنت ، ثم جعلوا يرون في المنام ، ويخبرون أن الراهب هو قتلها ، وأنها تحت شجرة كذا وكذا ، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها تحتها قد قتلت ، فعمدوا إليه فأخذوه . فقال له الشيطان : أنا زينت لك الزنا وقتلها بعد الزنا ، فهل لك أن أنجيك ؟ قال : نعم قال : أفتطيعني ؟ قال : نعم قال : فاسجد لي سجدة واحدة ، فسجد له ثم قتل ، فذلك قوله : (
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ) الآية
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
ابن طاوس ، عن أبيه قال : " كان رجل من بني إسرائيل عابدا ، وكان ربما داوى المجانين ، فكانت امرأة جميلة ، فأخذها الجنون ، فجيء بها إليه ، فتركت عنده ، فأعجبته فوقع عليها فحملت ، فجاءه الشيطان فقال : إن علم بهذا افتضحت ، فاقتلها وادفنها في بيتك ، فقتلها ودفنها ، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه ، فقال :
[ ص: 297 ] ماتت ، فلم يتهموه لصلاحه فيهم ، فجاءهم الشيطان فقال : إنها لم تمت ، ولكنه وقع عليها فقتلها ودفنها في بيته في مكان كذا وكذا ، فجاء أهلها ، فقالوا : ما نتهمك ، فأخبرنا أين دفنتها ، ومن كان معك ، فوجدوها حيث دفنها ، فأخذ وسجن ، فجاءه الشيطان فقال : إن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فتخرج منه ، فاكفر بالله ، فأطاع الشيطان ، وكفر بالله ، فأخذ وقتل ، فتبرأ الشيطان منه حينئذ . قال : فما أعلم هذه الآية إلا نزلت فيه (
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ) .
وقال آخرون : بل عني بذلك الناس كلهم ، وقالوا : إنما هذا مثل ضرب
للنضير فى غرور المنافقين إياهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ) عامة الناس .