[ ص: 306 ] [ ص: 307 ] [ ص: 308 ] [ ص: 309 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ( 1 ) )
وقوله : ( تلقون إليهم بالمودة ) يقول جل ثناؤه : تلقون إليهم مودتكم إياهم ، ودخول الباء في قوله : ( بالمودة ) وسقوطها سواء ، نظير قول القائل : أريد بأن تذهب ، وأريد أن تذهب؛ سواء ، وكقوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) والمعنى : ومن يرد فيه إلحادا بظلم; ومن ذلك قول الشاعر :
فلما رجت بالشرب هز لها العصا شحيح له عند الإزاء نهيم
[ ص: 310 ]
بمعنى : فلما رجت الشرب .
( وقد كفروا بما جاءكم من الحق ) يقول : وقد كفر هؤلاء المشركون الذين نهيتكم أن تتخذوهم أولياء بما جاءكم من عند الله من الحق ، وذلك كفرهم بالله ورسوله وكتابه الذي أنزله على رسوله .
وقوله : ( يخرجون الرسول وإياكم ) يقول جل ثناؤه : يخرجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياكم ، بمعنى : ويخرجونكم أيضا من دياركم وأرضكم ، وذلك إخراج مشركي قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة .
وقوله : ( أن تؤمنوا بالله ربكم ) يقول جل ثناؤه : يخرجون الرسول وإياكم من دياركم ، لأن آمنتم بالله .
ويعني قوله تعالى ذكره : ( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي ) : إن كنتم خرجتم من دياركم ، فهاجرتم منها إلى مهاجركم للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم ، وديني الذي أمرتكم به . والتماس مرضاتي .
وقوله : ( تسرون إليهم بالمودة ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب [ ص: 311 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسرون أيها المؤمنون بالمودة إلى المشركين بالله ( وأنا أعلم بما أخفيتم ) يقول : وأنا أعلم منكم بما أخفى بعضكم من بعض ، فأسره منه ( وما أعلنتم ) يقول : وأعلم أيضا منكم ما أعلنه بعضكم لبعض ( ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) يقول جل ثناؤه : ومن يسر منكم إلى المشركين بالمودة أيها المؤمنون فقد ضل . يقول : فقد جار عن قصد السبيل التي جعلها الله طريقا إلى الجنة ومحجة إليها .
وذكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة نزلت في شأن nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب بن أبي بلتعة ، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم ، وبذلك جاءت الآثار والرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، ثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . . . إلى آخر الآية ، نزلت في رجل كان مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من قريش ، كتب إلى أهله وعشيرته بمكة ، يخبرهم وينذرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر إليهم ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحيفته ، فبعث إليها nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأتاه بها .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=811815لما أنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) في nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب بن أبي بلتعة ، كتب إلى كفار قريش كتابا ينصح لهم فيه ، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، فأرسل عليا والزبير ، فقال : "اذهبا فإنكما ستجدان امرأة بمكان كذا وكذا ، فأتيا بكتاب معها" ، فانطلقا حتى أدركاها ، فقالا : الكتاب الذي معك ، قالت : ليس معي كتاب ، فقالا : والله لا ندع معك شيئا إلا فتشناه ، أو لتخرجينه ، قالت : أولستم مسلمين؟ قالا : بلى ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن معك كتابا قد أيقنت أنفسنا أنه معك؟ فلما رأت جدهما أخرجت كتابا من بين قرونها ، فذهبا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى كفار قريش ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أنت كتبت هذا الكتاب؟ " قال : نعم ، قال : "ما حملك على ذلك؟ " قال : أما والله ما ارتبت في الله [ ص: 315 ] منذ أسلمت ، ولكني كنت امرأ غريبا فيكم أيها الحي من قريش ، وكان لي بمكة مال وبنون ، فأردت أن أدفع بذلك عنهم ، فقال عمر رضي الله عنه : ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مهلا يا ابن الخطاب ، وما يدريك لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فإني غافر لكم " قال الزهري : فيه نزلت ، حتى : ( غفور رحيم )
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) . . . حتى بلغ ( سواء السبيل ) : ذكر لنا أن حاطبا كتب إلى أهل مكة يخبرهم سير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم زمن الحديبية ، فأطلع الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، وذكر لنا أنهم وجدوا الكتاب مع امرأة في قرن من رأسها ، فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ما حملك على الذي صنعت؟" قال : والله ما شككت في أمر الله ، ولا ارتددت فيه ، ولكن لي هناك أهلا ومالا فأردت مصانعة قريش على أهلي ومالي . وذكر لنا أنه كان حليفا لقريش لم يكن من أنفسهم ، فأنزل الله عز وجل في ذلك القرآن ، فقال : ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ) .