[ ص: 295 ] القول في تأويل قوله تعالى (
كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم )
قال
أبو جعفر : ومعنى قوله : "
كذلك يريهم الله أعمالهم " ، يقول : كما أراهم العذاب الذي ذكره في قوله : "ورأوا العذاب " ، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ، فكذلك يريهم أيضا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله "حسرات عليهم " يعني : ندامات .
"والحسرات " جمع "حسرة " . وكذلك كل اسم كان واحده على "فعلة " مفتوح الأول ساكن الثاني ، فإن جمعه على "فعلات " مثل "شهوة وتمرة " تجمع "شهوات وتمرات " مثقلة الثواني من حروفها . فأما إذا كان نعتا فإنك تدع ثانيه ساكنا مثل "ضخمة " ، تجمعها "ضخمات " و"عبلة " تجمعها "عبلات " ، وربما سكن الثاني في الأسماء ، كما قال الشاعر :
عل صروف الدهر أو دولاتها يدلننا اللمة من لماتها
فتستريح النفس من زفراتها
فسكن الثاني من "الزفرات " ، وهي اسم . وقيل : إن "الحسرة " أشد الندامة .
[ ص: 296 ]
فإن قال لنا قائل : فكيف يرون أعمالهم حسرات عليهم ، وإنما يتندم المتندم على ترك الخيرات وفوتها إياه ؟ وقد علمت أن الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندمون على تركهم الازدياد منه ، فيريهم الله قليله! بل كانت أعمالهم كلها معاصي لله ، ولا حسرة عليهم في ذلك ، وإنما الحسرة فيما لم يعملوا من طاعة الله ؟
قيل : إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون ، فنذكر في ذلك ما قالوا ، ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله .
فقال بعضهم : معنى ذلك : كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيعوها ولم يعملوا بها ، حتى استوجب ما كان الله أعد لهم ، لو كانوا عملوا بها في حياتهم ، من المساكن والنعم غيرهم بطاعته ربه . فصار ما فاتهم من الثواب - الذي كان الله أعده لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا ، إذ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك - أسى وندامة وحسرة عليهم .
ذكر من قال ذلك :
2434 - حدثني
موسى بن هارون قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم " ، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها ، لو أنهم أطاعوا الله ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله ، ثم تقسم بين المؤمنين ، فيرثونهم . فذلك حين يندمون .
2435 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار قال : حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا
سفيان عن
سلمة بن كهيل قال : حدثنا
أبو الزعراء ، عن
عبد الله - في
[ ص: 297 ] قصة ذكرها - فقال : فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار ، وهو يوم الحسرة . قال : فيرى أهل النار الذين في الجنة ، فيقال لهم : لو عملتم! فتأخذهم الحسرة . قال : فيرى أهل الجنة البيت الذي في النار ، فيقال : لولا أن من الله عليكم!
فإن قال قائل : وكيف يكون مضافا إليهم من العمل ما لم يعملوه على هذا التأويل ؟
قيل : كما يعرض على الرجل العمل فيقال [ له ] قبل أن يعمله : هذا عملك . يعني : هذا الذي يجب عليك أن تعمله ، كما يقال للرجل يحضر
[ ص: 298 ] غداؤه قبل أن يتغدى به : هذا غداؤك اليوم . يعني به : هذا ما تتغدى به اليوم . فكذلك قوله : "كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم " ، يعني : كذلك يريهم الله أعمالهم التي كان لازما لهم العمل بها في الدنيا ، حسرات عليهم .
وقال آخرون : كذلك يريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم ، لم عملوها ؟ وهلا عملوا بغيرها مما يرضي الله تعالى ذكره ؟
ذكر من قال ذلك :
2436 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : "كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم " ، فصارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة .
2437 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : "أعمالهم حسرات عليهم " قال : أوليس أعمالهم الخبيثة التي أدخلهم الله بها النار ؟ [ فجعلها ] حسرات عليهم . قال : وجعل أعمال أهل الجنة لهم ، وقرأ قول الله : (
بما أسلفتم في الأيام الخالية ) [ سورة الحاقة : 24 ]
قال
أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال :
معنى قوله : " كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم " ، كذلك يري الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم ، لم عملوا بها ؟ وهلا عملوا بغيرها ؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة ، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها ، لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندما عليهم .
[ ص: 299 ]
فالذي هو أولى بتأويل الآية ، ما دل عليه الظاهر دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعني بها . والذي قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في ذلك ، وإن كان مذهبا تحتمله الآية ، فإنه منزع بعيد . ولا أثر - بأن ذلك كما ذكر - تقوم به حجة فيسلم لها ، ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها . فإذ كان الأمر كذلك ، لم يحل ظاهر التنزيل إلى باطن تأويل .