القول في
تأويل قوله جل ثناؤه ( يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ( 7 )
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ( 8 )
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ( 9 ) ) .
يقول تعالى ذكره : إن الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، بروا بوفائهم لله بالنذور التي كانوا ينذرونها في طاعة الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
يوفون بالنذر ) قال : إذا نذروا في حق الله .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
يوفون بالنذر ) قال : كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة ، والحج والعمرة ، وما افترض عليهم ، فسماهم الله بذلك الأبرار ، فقال : (
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
يوفون بالنذر ) قال : بطاعة الله ، وبالصلاة ، وبالحج ، وبالعمرة .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، قوله : (
يوفون بالنذر ) قال : في غير معصية ، وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة الكلام عليه منه ، وهو كان ذلك . وذلك أن معنى الكلام : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، كانوا يوفون بالنذر ، فترك ذكر كانوا لدلالة الكلام عليها ، والنذر : هو كل ما أوجبه الإنسان على نفسه من فعل; ومنه قول
عنترة :
[ ص: 96 ] الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لم ألقهما دمي
وقوله : (
ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) يقول تعالى ذكره : ويخافون عقاب الله بتركهم الوفاء بما نذروا لله من بر في يوم كان شره مستطيرا ، ممتدا طويلا فاشيا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض ، وأما رجل يقول عليه نذر أن لا يصل رحما ، ولا يتصدق ، ولا يصنع خيرا ، فإنه لا ينبغي أن يكفر عنه ، ويأتي ذلك ، ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال : إذا امتد ، ولا يقال ذلك في الحائط; ومنه قول
الأعشى :
فبانت وقد أثأرت في الفؤا د صدعا على نأيها مستطيرا
يعني : ممتدا فاشيا .
وقوله : (
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ) يقول تعالى ذكره : كان هؤلاء الأبرار يطعمون الطعام على حبهم إياه ، وشهوتهم له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14919فضيل بن عياض ، عن
منصور ، عن
مجاهد ، في قوله : (
ويطعمون الطعام على حبه ) قال : وهم يشتهونه .
[ ص: 97 ]
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=11953يحيى بن واضح ، قال : ثنا
أبو العريان ، قال : سألت
سليمان بن قيس أبا مقاتل بن سليمان ، عن قوله : (
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ) قال : على حبهم للطعام .
وقوله : ( مسكينا ) يعني جل ثناؤه بقوله مسكينا : ذوي الحاجة الذين قد أذلتهم الحاجة ، ( ويتيما ) وهو الطفل الذي قد مات أبوه ولا شيء له ( وأسيرا ) : وهو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرا بالغلبة ، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحق ، فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء تقربا بذلك إلى الله وطلب رضاه ، ورحمة منهم لهم .
واختلف أهل العلم في الأسير الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : بما حدثنا به
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) قال : لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم ، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
وأسيرا ) قال : كان أسراهم يومئذ المشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه .
قال : ثنا
المعتمر ، عن أبيه ، عن
أبي عمرو أن
عكرمة قال في قوله : (
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) زعم أنه قال : كان الأسرى في ذلك الزمان المشرك .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
حماد بن مسعدة ، قال : ثنا
أشعث ، عن
الحسن (
ويتيما وأسيرا ) قال : ما كان أسراهم إلا المشركين .
وقال آخرون : عني بذلك : المسجون من أهل القبلة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
عبد الرحمن ، قال : ثنا
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قال : الأسير : المسجون .
حدثني
أبو شيبة بن أبي شيبة ، قال : ثنا
عمر بن حفص ، قال : ثني أبي عن
حجاج ، قال : ثني
عمرو بن مرة ، عن
سعيد بن جبير في قول الله : (
مسكينا ويتيما وأسيرا ) من أهل القبلة وغيرهم ، فسألت
عطاء ، فقال مثل ذلك .
حدثني
علي بن سهل الرملي ، قال : ثنا
يحيى - يعني : ابن عيسى - عن
سفيان ، [ ص: 98 ] عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد (
وأسيرا ) قال : الأسير ، : هو المحبوس .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، مثله .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون الأسير ، والأسير الذي قد وصفت صفته; واسم الأسير قد يشتمل على الفريقين ، وقد عم الخبر عنهم أنهم يطعمونهم فالخبر على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له . وأما قول من قال : لم يكن لهم أسير يومئذ إلا أهل الشرك ، فإن ذلك وإن كان كذلك ، فلم يخصص بالخبر الموفون بالنذر يومئذ ، وإنما هو خبر من الله عن كل من كانت هذه صفته يومئذ وبعده إلى يوم القيامة ، وكذلك الأسير معني به أسير المشركين والمسلمين يومئذ ، وبعد ذلك إلى قيام الساعة .
وقوله : (
إنما نطعمكم لوجه الله ) يقول تعالى ذكره : يقولون : إنما نطعمكم إذا هم أطعموهم لوجه الله ، يعنون طلب رضا الله ، والقربة إليه (
لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) يقولون للذين يطعمونهم ذلك الطعام : لا نريد منكم أيها الناس على إطعامناكم ثوابا ولا شكورا .
وفي قوله : ( ولا شكورا ) وجهان من المعنى : أحدهما أن يكون جمع الشكر كما الفلوس جمع فلس ، والكفور جمع كفر . والآخر : أن يكون مصدرا واحدا في معنى جمع ، كما يقال : قعد قعودا ، وخرج خروجا .
وقد حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن سالم ، عن
مجاهد (
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) قال : إما أنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله من قلوبهم ، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب .
حدثنا
محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا
موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا
محمد بن مسلم بن أبي الوضاح ، عن
سالم ، عن
سعيد بن جبير (
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) قال : أما والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علمه الله من قلوبهم ، فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب .