القول في
تأويل قوله تعالى : ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ( 29 )
انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ( 30 )
لا ظليل ولا يغني من اللهب ( 31 )
إنها ترمي بشرر كالقصر ( 32 )
كأنه جمالة صفر ( 33 )
ويل يومئذ للمكذبين ( 34 ) ) .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذبين بهذه النعم و الحجج التي احتج بها عليهم يوم القيامة : (
انطلقوا إلى ما كنتم به ) في الدنيا ( تكذبون ) من عذاب الله لأهل الكفر به (
انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ) يعني تعالى ذكره : إلى ظل دخان ذي ثلاث شعب ( لا ظليل ) ، وذلك أنه يرتفع من وقودها الدخان فيما ذكر ، فإذا تصاعد تفرق شعبا ثلاثا ، فذلك قوله : (
ذي ثلاث شعب ) .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
إلى ظل ذي ثلاث شعب ) قال : دخان جهنم .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
ظل ذي ثلاث شعب ) قال : هو كقوله : (
نارا أحاط بهم سرادقها ) قال : والسرادق : دخان النار ، فأحاط بهم سرادقها ، ثم تفرق ، فكان ثلاث شعب ، فقال : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب : شعبة هاهنا ، وشعبة هاهنا ، وشعبة هاهنا (
لا ظليل ولا يغني من اللهب ) .
وقوله : ( لا ظليل ) يقول : لا هو يظلهم من حرها (
ولا يغني من اللهب ) ولا يكنهم من لهبها .
[ ص: 137 ]
وقوله : (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) يقول تعالى ذكره : إن جهنم ترمي بشرر كالقصر ، فقرأ ذلك قراء الأمصار : ( كالقصر ) بجزم الصاد .
واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في معناه ، فقال بعضهم : هو واحد القصور .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله : (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) يقول : كالقصر العظيم .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
خصيف ، عن
مجاهد (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) قال : ذكر القصر .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : أخبرني
يزيد بن يونس ، عن
أبي صخر في قول الله : (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) قال : كان
القرظي يقول : إن على جهنم سورا فما خرج من وراء السور مما يرجع فيها في عظم القصر ، ولون القار .
وقال آخرون : بل هو الغليظ من الخشب ، كأصول النخل وما أشبه ذلك .
ذكر من قال ذلك .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
عبد الرحمن بن عابس ، قال : سألت
ابن عباس عن قوله : (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) قال : القصر : خشب كنا ندخره للشتاء ثلاث أذرع ، وفوق ذلك ، ودون ذلك كنا نسميه القصر .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
مؤمل ، قال : ثنا
سفيان ، قال : سمعت
عبد الرحمن بن عابس ، قال : سمعت
ابن عباس يقول في قوله : (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) قال : القصر : خشب كان يقطع في الجاهلية ذراعا وأقل أو أكثر ، يعمد به .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
عبد الرحمن بن عابس ، قال : سمعت
ابن عباس يقول في قوله : (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) قال : كنا في الجاهلية نقصر ذراعين أو ثلاث أذرع ، وفوق ذلك ودون ذلك نسميه القصر .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) فالقصر : الشجر المقطع ، ويقال : القصر : النخل المقطوع .
[ ص: 138 ]
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : ( كالقصر ) قال : حزم الشجر ، يعني الحزمة .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
محمد بن جعفر ، قال : ثنا
ابن أبي عدي ، عن
شعبة ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس في هذه الآية (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) قال : مثل قصر النخلة .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
إنها ترمي بشرر كالقصر ) أصول الشجر ، وأصول النخل .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
بشرر كالقصر ) قال : كأصل الشجر .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
بشرر كالقصر ) القصر : أصول الشجر العظام ، كأنها أجواز الإبل الصفر وسط كل شيء جوزه ، وهي الأجواز .
حدثنا
أحمد بن يوسف ، قال : ثنا
القاسم ، قال : ثنا
حجاج ، عن
هارون ، قال : قرأها
الحسن : ( كالقصر ) وقال : هو الجزل من الخشب قال : واحدته : قصرة وقصر ، مثله : جمرة وجمر ، وتمرة وتمر .
وذكر عن
ابن عباس أنه قرأ ذلك ( كالقصر ) بتحريك الصاد .
حدثني
أحمد بن يوسف ، قال : ثنا
القاسم ، قال : ثنا
حجاج ، عن
هارون ، قال : أخبرني
حسين المعلم ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس أنه قرأها ( كالقصر ) بفتح القاف والصاد .
قال : وقال
هارون : أخبرني
أبو عمر أن
ابن عباس قرأها : ( كالقصر ) وقال : قصر النخل ، يعني الأعناق .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار ، وهو سكون الصاد ، وأولى التأويلات به أنه القصر من القصور ، وذلك لدلالة قوله : (
كأنه جمالة صفر ) على صحته ، والعرب تشبه الإبل بالقصور المبنية ، كما قال
الأخطل في صفة ناقة :
[ ص: 139 ] كأنها برج رومي يشيده لز بجص وآجر وأحجار
وقيل : (
بشرر كالقصر ) ولم يقل كالقصور ، والشرر جمع ، كما قيل : (
سيهزم الجمع ويولون الدبر ) ولم يقل الأدبار ، لأن الدبر بمعنى الأدبار ، وفعل ذلك توفيقا بين رءوس الآيات ومقاطع الكلام ، لأن العرب تفعل ذلك كذلك ، وبلسانها نزل القرآن . وقيل : كالقصر ، ومعنى الكلام : كعظم القصر ، كما قيل : (
تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) ولم يقل : كعيون الذي يغشى عليه ، لأن المراد في التشبيه الفعل لا العين .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، قال : ثنا
محمد بن جعفر ، قال : ثنا
شعبة ، عن
عطاء بن السائب ، أنه سأل
الأسود عن هذه الآية : (
ترمي بشرر كالقصر ) فقال : مثل القصر .
وقوله : (
جمالة صفر ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : كأن الشرر الذي ترمي به جهنم كالقصر جمالات سود : أي أينق سود; وقالوا : الصفر في هذا الموضع ، بمعنى السود قالوا : وإنما قيل لها صفر وهي سود ، لأن ألوان الإبل سود تضرب إلى الصفرة ، ولذلك قيل لها صفر ، كما سميت الظباء أدما ، لما يعلوها في بياضها من الظلمة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
أحمد بن عمرو البصري ، قال : ثنا
بدل بن المحبر ، قال : ثنا
عباد بن راشد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند ، عن
الحسن (
كأنه جمالة صفر ) قال : الأينق السود .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
كأنه جمالة صفر ) كالنوق السود الذي رأيتم .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : (
جمالة صفر ) قال : نوق سود .
[ ص: 140 ]
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران; وحدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، جميعا عن
سفيان ، عن
خصيف ، عن
مجاهد (
كأنه جمالة صفر ) قال : هي الإبل .
قال : ثنا
مهران ، عن
سعيد ، عن
قتادة (
كأنه جمالة صفر ) قال : كالنوق السود الذي رأيتم .
وقال آخرون : بل عني بذلك : قلوس السفن ، شبه بها الشرر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن
سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس (
كأنه جمالة صفر ) فالجمالات الصفر : قلوس السفن التي تجمع فتوثق بها السفن .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سعيد ، عن
عبد الرحمن بن عابس ، قال : سألت
ابن عباس عن قوله : (
كأنه جمالة صفر ) قال : قلوس سفن البحر يجمل بعضها على بعض ، حتى تكون كأوساط الرجال .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
عبد الرحمن بن عابس ، قال : سمعت
ابن عباس سئل عن (
جمالة صفر ) فقال : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
مؤمل ، قال : ثنا
سفيان ، قال : سمعت
عبد الرحمن بن عابس ، قال : ثنا
عبد الملك بن عبد الله ، قال : ثنا
هلال بن خباب ، عن
سعيد بن جبير ، في قوله : (
جمالة صفر ) قال : قلوس الجسر .
حدثني
محمد بن حويرة بن محمد المنقري ، قال : ثنا
عبد الملك بن عبد الله القطان ، قال : ثنا
هلال بن خباب ، عن
سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
محمد بن جعفر nindex.php?page=showalam&ids=16893وابن أبي عدي ، عن
شعبة ، عن
أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير (
كأنه جمالة صفر ) قال : الحبال .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
أبي اسحاق ، عن
سليمان بن عبد الله ، عن
ابن عباس (
كأنه جمالة صفر ) قال : قلوس سفن البحر .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، [ ص: 141 ] قوله : (
كأنه جمالة صفر ) قال : حبال الجسور .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كأنه قطع النحاس .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله : (
كأنه جمالة صفر ) يقول : قطع النحاس .
وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال : عني بالجمالات الصفر : الإبل السود ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وأن الجمالات جمع جمال ، نظير رجال ورجالات ، وبيوت وبيوتات .
وقد اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء
المدينة والبصرة وبعض
الكوفيين ( جمالات ) بكسر الجيم والتاء على أنها جمع جمال وقد يجوز أن يكون أريد بها جمع جمالة ، والجمالة جمع جمل كما الحجارة جمع حجر ، والذكارة جمع ذكر . وقرأ ذلك عامة قراء
الكوفيين ( كأنه جمالات ) بكسر الجيم على أنها جمع جمل جمع على جمالة ، كما ذكرت من جمع حجر حجارة . وروي عن
ابن عباس أنه كان يقرأ ( جمالات ) بالتاء وضم الجيم كأنه جمع جمالة من الشيء المجمل .
حدثنا
أحمد بن يوسف ، قال : ثنا
القاسم ، قال . ثنا
حجاج ، عن
هارون ، عن
الحسين المعلم ، عن أبي
بشر ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس .
والصواب من القول في ذلك ، أن لقارئ ذلك اختيار أي القراءتين شاء من كسر الجيم وقراءتها بالتاء ، وكسر الجيم وقراءتها بالهاء التي تصير في الوصل تاء ، لأنهما القراءتان المعروفتان في قراء الأمصار ، فأما ضم الجيم فلا أستجيزه لإجماع الحجة من القراء على خلافه .
وقوله : (
ويل يومئذ للمكذبين ) يقول تعالى ذكره : ويل يوم القيامة للمكذبين هذا الوعيد الذي توعد الله به المكذبين من عباده .