القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذا السماء كشطت ( 11 )
وإذا الجحيم سعرت ( 12 )
وإذا الجنة أزلفت ( 13 )
علمت نفس ما أحضرت ( 14 )
فلا أقسم بالخنس ( 15 )
الجوار الكنس ( 16 ) ) .
يقول تعالى ذكره : وإذا السماء نزعت وجذبت ثم طويت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : ( كشطت ) قال : جذبت . وذكر أن ذلك في قراءة
عبد الله ( قشطت ) بالقاف ، والقشط والكشط بمعنى واحد وذلك تحويل من العرب الكاف قافا لتقارب مخرجيهما ، كما قيل للكافور قافور ، ولقسط كسط ، وذلك كثير في كلامهم إذا
[ ص: 250 ] تقارب مخرج الحرفين أبدلوا من كل واحد منهما صاحبه ، كقولهم للأثافي : أثاثي ، وثوب فرقبي وثرقبي .
وقوله : (
وإذا الجحيم سعرت ) يقول تعالى ذكره : وإذا الجحيم أوقد عليها فأحميت .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وإذا الجحيم سعرت ) سعرها غضب الله ، وخطايا بني
آدم .
واختلفت القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة قراء
المدينة ( سعرت ) بتشديد عينها بمعنى أوقد عليها مرة بعد مرة ، وقرأته عامة قراء
الكوفة بالتخفيف . والقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وقوله : (
وإذا الجنة أزلفت ) يقول تعالى ذكره : وإذا الجنة قربت وأدنيت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن أبيه ، عن
أبي يعلى ، عن
الربيع بن خثيم : (
وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت ) قال : إلى هذين ما جرى الحديث : فريق في الجنة ، وفريق في السعير .
حدثني
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان عن أبيه ، عن
أبي يعلى ، عن
الربيع (
وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت ) قال : إلى هذين ما جرى الحديث : فريق إلى الجنة ، وفريق إلى النار . يعني الربيع بقوله : إلى هذين ما جرى الحديث أن ابتداء الخبر (
إذا الشمس كورت ) إلى قوله : (
وإذا الجحيم سعرت ) إنما عددت الأمور الكائنة التي نهايتها أحد هذين الأمرين ، وذلك المصير إما إلى الجنة ، وإما إلى النار .
وقوله : (
علمت نفس ما أحضرت ) يقول تعالى ذكره : علمت نفس عند ذلك ما أحضرت من خير ، فتصير به إلى الجنة ، أو شر فتصير به إلى النار ، يقول : يتبين له عند ذاك ما كان جاهلا به ، وما الذي كان فيه صلاحه من غيره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
علمت نفس ما أحضرت )
[ ص: 251 ] من عمل قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وإلى هذا جرى الحديث .
وقوله : (
علمت نفس ما أحضرت ) جواب لقوله : (
إذا الشمس كورت ) وما بعدها ، كما يقال : إذا قام عبد الله قعد عمرو .
وقوله : (
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) اختلف أهل التأويل في الخنس الجوار الكنس فقال بعضهم : هي النجوم الدراري الخمسة تخنس في مجراها فترجع وتكنس ، فتستتر في بيوتها كما تكنس الظباء في المغار ، والنجوم الخمسة : بهرام وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمشتري .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
هناد ، قال : ثنا
أبو الأحوص ، عن
سماك ، عن
خالد بن عرعرة ، أن رجلا قام إلى
علي رضي الله عنه ، فقال : ما (
الجوار الكنس ) ؟ قال : هي الكواكب .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى ، قال : ثنا
محمد بن جعفر ، قال : ثنا
شعبة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16052سماك بن حرب ، قال : سمعت
خالد بن عرعرة ، قال : سمعت
عليا عليه السلام ، وسئل عن (
لا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتكنس بالليل .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سماك ، عن
خالد بن عرعرة ، عن
علي رضي الله عنه ، قال : النجوم .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن رجل من مراد ، عن
علي أنه قال : هل تدرون ما الخنس ؟ هي النجوم تجري بالليل ، وتخنس بالنهار .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : ثني
جرير بن حازم ، أنه سمع
الحسن يسئل ، فقيل : يا
أبا سعيد ما الجواري الكنس ؟ قال : النجوم .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : ثنا
هوذة بن خليفة ، قال : ثنا
عوف ، عن
بكر بن عبد الله ، في قوله : (
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : هي النجوم الدراري ، التي تجري تستقبل المشرق .
حدثني
أبو السائب ، قال : ثنا أبو
معاوية ، عن
الأعمش ، عن
مجاهد ، قال : هي النجوم .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن رجل
[ ص: 252 ] من مراد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه (
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : يعني النجوم تكنس بالنهار ، وتبدو بالليل .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة : قوله : (
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
الحسن في قوله : (
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، والجوار الكنس : سيرهن إذا غبن .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : الخنس والجواري الكنس : النجوم الخنس ، إنها تخنس تتأخر عن مطلعها ، هي تتأخر كل عام لها في كل عام تأخر عن تعجيل ذلك الطلوع تخنس عنه . والكنس : تكنس بالنهار فلا ترى . قال : والجواري تجري بعد ، فهذا الخنس الجواري الكنس .
وقال آخرون : هي بقر الوحش التي تكنس في كناسها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
الحسن بن عرفة قال : ثنا
هشيم بن بشير ، عن
زكريا بن أبي زائدة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبي إسحاق السبيعي ، عن
أبي ميسرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود أنه قال
لأبي ميسرة : ما الجواري الكنس ؟ قال : فقال بقر الوحش قال : فقال : وأنا أرى ذلك .
حدثنا
ابن بشار ، قال : ثنا
يحيى ، عن
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن
أبي ميسرة ، عن
عبد الله ، في قوله : (
الجوار الكنس ) : قال : بقر الوحش .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12171عمرو بن شرحبيل ، قال : قال
ابن مسعود : يا
عمرو ما الجواري الكنس ، أو ما تراها ؟ قال
عمرو : أراها البقر ، قال
عبد الله : وأنا أراها البقر .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن
أبي ميسرة قال : سألت عنها
عبد الله ، فذكر نحوه .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : ثني
جرير بن حازم ، قال : ثني
الحجاج بن المنذر ، قال : سألت
أبا الشعثاء جابر بن زيد عن الجواري الكنس ،
[ ص: 253 ] قال : هي البقر إذا كنست كوانسها .
قال
يونس : قال لي
nindex.php?page=showalam&ids=16472عبد الله بن وهب : هي البقر إذا فرت من الذئاب ، فذلك الذي أراد بقوله : كنست كوانسها .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
جرير ، وحدثني
الصلت بن راشد ، عن
مجاهد مثل ذلك .
حدثني
أبو السائب ، قال : ثنا أبو
معاوية ، عن
الأعمش ، عن
إبراهيم ، في قوله : (
الجوار الكنس ) قال : هي بقر الوحش .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
جرير ، عن
مغيرة ، قال : سئل
مجاهد ونحن عند
إبراهيم ، عن قوله : (
الجوار الكنس ) قال : لا أدري ، فانتهره
إبراهيم وقال : لم لا تدري ؟ فقال : إنهم يروون عن
علي رضي الله عنه : وكنا نسمع أنها البقر ، فقال
إبراهيم : هي البقر ، الجواري الكنس : حجرة بقر الوحش التي تأوي إليها ، والخنس الجواري : البقر .
حدثنا
يعقوب ، قال : ثنا
هشيم ، قال : أخبرنا
مغيرة ، عن
إبراهيم ومجاهد أنهما تذاكرا هذه الآية (
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) فقال إبراهيم
لمجاهد : قل فيها ما سمعت ، قال : فقال
مجاهد : كنا نسمع فيها شيئا ، وناس يقولون : إنها النجوم ، قال : فقال
إبراهيم : إنهم يكذبون على
علي رضي الله عنه ، هذا كما رووا عن
علي رضي الله عنه ، أنه ضمن الأسفل الأعلى ، والأعلى الأسفل .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
المغيرة ، قال : سئل
مجاهد عن الجواري الكنس قال : لا أدري يزعمون أنها البقر; قال : فقال
إبراهيم : ما لا تدري هي البقر ، قال : يذكرون عن
علي رضي الله عنه أنها النجوم ، قال : يكذبون على
علي عليه السلام .
وقال آخرون : هي الظباء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) يعني : الظباء .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
ابن يمان ، عن
أشعث بن إسحاق ، عن
جعفر ، [ ص: 254 ] عن
سعيد بن جبير (
فلا أقسم بالخنس ) قال : الظباء .
حدثني
يعقوب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، قال : ثنا
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قوله : (
فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : كنا نقول : " أظنه قال " : الظباء ، حتى زعم
سعيد بن جبير أنه سأل
ابن عباس عنها ، فأعاد عليه قراءتها .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : ( الخنس الجوار الكنس ) يعني الظباء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بأشياء تخنس أحيانا : أي تغيب ، وتجري أحيانا وتكنس أخرى ، وكنوسها : أن تأوي في مكانسها ، والمكانس عند العرب : هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء ، واحدها : مكنس وكناس ، كما قال
الأعشى :
فلما لحقنا الحي أتلع أنس كما أتلعت تحت المكانس ربرب
فهذه جمع مكنس ، وكما قال في الكناس
طرفة بن العبد :
كأن كناسي ضالة يكنفانها وأطر قسي تحت صلب مؤيد
وأما الدلالة على أن الكناس قد يكون للظباء ، فقول
أوس بن حجر :
[ ص: 255 ] ألم تر أن الله أنزل مزنة وعفر الظباء في الكناس تقمع
فالكناس في كلام العرب ما وصفت ، وغير منكر أن يستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء ، فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر ، ولا البقر دون الظباء ، فالصواب أن يعم بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحيانا والجري أخرى ، والكنوس بآنات على ما وصف جل ثناؤه من صفتها .