القول في تأويل قوله تعالى : (
ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( 6 )
إرم ذات العماد ( 7 )
التي لم يخلق مثلها في البلاد ( 8 )
وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ( 9 )
وفرعون ذي الأوتاد ( 10 )
الذين طغوا في البلاد ( 11 ) ) .
وقوله : (
ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ) يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا
محمد بعين قلبك ، فترى كيف فعل ربك بعاد ؟
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( إرم ) فقال بعضهم : هي اسم بلدة ، ثم اختلف الذين قالوا ذلك في البلدة التي عنيت بذلك ، فقال بعضهم : عنيت به
الإسكندرية .
[ ص: 404 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : ثني
يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن
أبي صخر ، عن
القرظي ، أنه سمعه يقول : (
إرم ذات العماد )
الإسكندرية .
قال
أبو جعفر ، وقال آخرون : هي
دمشق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عبد الله الهلالي من
أهل البصرة ، قال : ثنا
عبيد الله بن عبد المجيد ، قال : ثنا
ابن أبي ذئب ، عن
المقبري (
بعاد إرم ذات العماد ) قال :
دمشق .
وقال آخرون : عني بقوله : ( إرم ) : أمة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمارة ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16527عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا
إسرائيل ، عن
أبي يحيى ، عن
مجاهد قوله : ( إرم ) قال : أمة .
وقال آخرون : معنى ذلك : القديمة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : ( إرم ) قال : القديمة .
وقال آخرون : تلك قبيلة من
عاد .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ) قال : كنا نحدث أن
إرم قبيلة من
عاد ، بيت مملكة
عاد .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال :
ثنا ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة ، في قوله : ( إرم ) قال : قبيلة من
عاد كان يقال لهم : إرم ، جد عاد .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق (
ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ) يقول الله :
بعاد إرم ، إن
عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح .
وقال آخرون : ( إرم ) : الهالك .
[ ص: 405 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : (
ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ) يعني بالإرم : الهالك ; ألا ترى أنك تقول : أرم بنو فلان ؟
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
بعاد إرم ) الهلاك ; ألا ترى أنك تقول أرم بنو فلان : أي هلكوا .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن
إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها ، فلذلك ردت على عاد للإتباع لها ، ولم يجر من أجل ذلك ، وإما اسم قبيلة فلم يجر أيضا ، كما لا يجرى أسماء القبائل ،
كتميم وبكر ، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة ، وأما اسم
عاد فلم يجر ، إذ كان اسما أعجميا .
فأما ما ذكر عن
مجاهد أنه قال : عني بذلك القديمة ، فقول لا معنى له ؛ لأن ذلك لو كان معناه لكان محفوظا بالتنوين ، وفي ترك الإجراء الدليل على أنه ليس بنعت ولا صفة .
وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي أنها اسم قبيلة من
عاد ، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة
عاد إليها ، وترك إجرائها ، كما يقال : ألم تر ما فعل ربك
بتميم نهشل ؟ فيترك إجراء
نهشل ، وهي قبيلة ، فترك إجراؤها لذلك ، وهي في موضع خفض بالرد على
تميم ، ولو كانت
إرم اسم بلدة ، أو اسم جد
لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها ، كما يقال : هذا عمرو زبيد وحاتم طيئ ، وأعشى همدان ، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى ، كما قال
قتادة ، والله أعلم ، فلذلك أجمعت القراء فيها على ترك الإضافة وترك الإجراء .
وقوله : (
ذات العماد ) اختلف أهل التأويل في
معنى قوله : ( ذات العماد ) في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : ذات الطول ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب للرجل الطويل : رجل معمد ، وقالوا : كانوا طوال الأجسام .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ،
[ ص: 406 ] عن أبيه ، عن
ابن عباس (
ذات العماد ) يعني : طولهم مثل العماد .
حدثني
محمد بن عمارة ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16527عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا
إسرائيل ، عن
أبي يحيى ، عن
مجاهد قوله : (
ذات العماد ) قال : كان لهم جسم في السماء .
وقال بعضهم : بل قيل لهم : (
ذات العماد ) لأنهم كانوا أهل عمد ، ينتجعون الغيوث ، وينتقلون إلى الكلأ حيث كان ، ثم يرجعون إلى منازلهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : ( العماد ) قال : أهل عمود لا يقيمون .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
ذات العماد ) قال : ذكر لنا أنهم كانوا أهل عمود لا يقيمون ، سيارة .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال :
ثنا ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
ذات العماد ) قال : كانوا أهل عمود .
وقال آخرون : بل قيل ذلك لهم لبناء بناه بعضهم ، فشيد عمده ، ورفع بناءه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
إرم ذات العماد ) قال :
عاد قوم
هود بنوها وعملوها حين كانوا في الأحقاف ، قال : (
لم يخلق مثلها ) مثل تلك الأعمال في البلاد ، قال : وكذلك في الأحقاف في
حضرموت ، ثم كانت
عاد ، قال : وثم أحقاف الرمل ، كما قال الله : بالأحقاف من الرمل ، رمال أمثال الجبال تكون مظلة مجوفة .
وقال آخرون : قيل ذلك لهم لشدة أبدانهم وقواهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
ذات العماد ) يعني : الشدة والقوة .
وأشبه الأقوال في ذلك بما دل عليه ظاهر التنزيل قول من قال : عني بذلك أنهم كانوا أهل عمود ، سيارة ؛ لأن المعروف في كلام العرب من العماد ، ما عمل
[ ص: 407 ] به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء ، ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح ، بل وجه أهل التأويل قوله : (
ذات العماد ) إلى أنه عني به طول أجسامهم ، وبعضهم إلى أنه عني به عماد خيامهم ، فأما عماد البنيان ، فلا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه ، وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه ما وجد إلى ذلك سبيلا دون الأنكر .
وقوله : (
التي لم يخلق مثلها في البلاد ) يقول جل ثناؤه : ألم تر كيف فعل ربك
بعاد ، إرم التي لم يخلق مثلها في البلاد ، يعني : مثل
عاد ، والهاء عائدة على
عاد . وجائز أن تكون عائدة على
إرم لما قد بينا قبل أنها قبيلة . وإنما عني بقوله : لم يخلق مثلها في العظم والبطش والأيد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
التي لم يخلق مثلها في البلاد ) ذكر أنهم كانوا اثني عشر ذراعا طولا في السماء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ، لم يخلق مثل الأعمدة في البلاد ، وقالوا : التي لم يخلق مثلها من صفة ذات العماد ، والهاء التي في مثلها إنما هي من ذكر ذات العماد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد في قوله : فذكر نحوه . وهذا قول لا وجه له ؛ لأن العماد واحد مذكر ، والتي للأنثى ، ولا يوصف المذكر بالتي ، ولو كان ذلك من صفة العماد لقيل : الذي لم يخلق مثله في البلاد ، وإن جعلت التي لإرم ، وجعلت الهاء عائدة في قوله : ( مثلها ) عليها ، وقيل : هي
دمشق أو
إسكندرية ، فإن بلاد
عاد هي التي وصفها الله في كتابه فقال : (
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ) والأحقاف : هي جمع حقف ، وهو ما انعطف من الرمل وانحنى ، وليست
الإسكندرية ولا
دمشق من بلاد الرمال ، بل ذلك الشحر من بلاد
حضرموت ، وما والاها .
وقوله : (
وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) يقول :
وبثمود الذين خرقوا الصخر ودخلوه فاتخذوه بيوتا ، كما قال جل ثناؤه : (
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين )
[ ص: 408 ] والعرب تقول : جاب فلان الفلاة يجوبها جوبا : إذا دخلها وقطعها ، ومنه قول
نابغة :
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى دجى الليل جواب الفلاة عميم
يعني بقوله : يجوب يدخل ويقطع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) يقول : فخرقوها .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : (
وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) يعني :
ثمود قوم صالح ، كانوا ينحتون من الجبال بيوتا .
حدثني
محمد بن عمارة ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16527عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا
إسرائيل ، عن
أبي يحيى ، عن
مجاهد في قوله : (
الذين جابوا الصخر بالواد ) قال : جابوا الجبال ، فجعلوها بيوتا .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) : جابوها ونحتوها بيوتا .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال :
ثنا ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة ، قال : (
جابوا الصخر ) قال : نقبوا الصخر .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
جابوا الصخر بالواد ) يقول : قدوا الحجارة .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد في قوله : (
الذين جابوا الصخر بالواد ) : ضربوا البيوت والمساكن في الصخر في الجبال ، حتى جعلوا فيها مساكن . جابوا : جوبوها تجوبوا البيوت في الجبال ، قال قائل :
ألا كل شيء ما خلا الله بائد كما باد حي من شنيق ومارد
[ ص: 409 ] هم ضربوا في كل صلاء صعدة بأيد شداد أيدات السواعد
وقوله : (
وفرعون ذي الأوتاد ) يقول جل ثناؤه : ألم تر كيف فعل ربك أيضا
بفرعون صاحب الأوتاد .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : (
ذي الأوتاد ) ولم قيل له ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ذي الجنود الذين يقوون له أمره ، وقالوا : الأوتاد في هذا الموضع : الجنود .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس (
وفرعون ذي الأوتاد ) قال : الأوتاد : الجنود الذين يشدون له أمره ، ويقال : كان
فرعون يوتد في أيديهم وأرجلهم أوتادا من حديد ، يعلقهم بها .
وقال آخرون : بل قيل له ذلك لأنه كان يوتد الناس بالأوتاد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
ذي الأوتاد ) قال : كان يوتد الناس بالأوتاد .
وقال آخرون : كانت مظال وملاعب يلعب له تحتها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وفرعون ذي الأوتاد ) ذكر لنا أنها كانت مظال وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وحبال .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال :
ثنا ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
ذي الأوتاد ) قال : ذي البناء كانت مظال يلعب له تحتها ، وأوتاد تضرب له .
قال :
ثنا ابن ثور ، عن
معمر ، عن
ثابت البناني ، عن
أبي رافع ، قال : أوتد
فرعون لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت .
وقال آخرون : بل ذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد .
[ ص: 410 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
إسماعيل ، عن محمود ، عن
سعيد بن جبير (
وفرعون ذي الأوتاد ) قال : كان يجعل رجلا هاهنا ورجلا هاهنا ، ويدا هاهنا ويدا هاهنا بالأوتاد .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
ذي الأوتاد ) قال : كان يوتد الناس بالأوتاد .
وقال آخرون : إنما قيل ذلك لأنه كان له بنيان يعذب الناس عليه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
إسماعيل ، عن رجل ، عن
سعيد بن جبير (
وفرعون ذي الأوتاد ) قال : كان له منارات يعذبهم عليها .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : عني بذلك : الأوتاد التي توتد ، من خشب كانت أو حديد ؛ لأن ذلك هو المعروف من معاني الأوتاد ، ووصف بذلك ؛ لأنه إما أن يكون كان يعذب الناس بها ، كما قال
أبو رافع nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ، وإما أن يكون كان يلعب له بها .
وقوله : (
الذين طغوا في البلاد ) يعني بقوله جل ثناؤه ( الذين ) :
عادا وثمود وفرعون وجنده ، ويعني بقوله ( طغوا ) : تجاوزوا ما أباحه لهم ربهم ، وعتوا على ربهم إلى ما حظره عليهم من الكفر به . وقوله : ( في البلاد ) : التي كانوا فيها .