القول في تأويل قوله تعالى : (
وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ( 16 )
كلا بل لا تكرمون اليتيم ( 17 )
ولا تحاضون على طعام المسكين ( 18 )
وتأكلون التراث أكلا لما ( 19 ) ) .
وقوله : (
وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) يقول : وأما إذا ما امتحنه ربه بالفقر (
فقدر عليه رزقه ) يقول : فضيق عليه رزقه وقتره ، فلم يكثر ماله ، ولم يوسع عليه (
فيقول ربي أهانن ) يقول : فيقول ذلك الإنسان : ربي أهانني ، يقول : أذلني بالفقر ، ولم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه ، ورزقه من العافية في جسمه .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) ما أسرع كفر ابن
آدم .
[ ص: 413 ]
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، قوله : (
فقدر عليه رزقه ) قال : ضيقه .
واختلفت القراء في قراءة قوله : (
فقدر عليه رزقه ) فقرأت عامة قراء الأمصار ذلك بالتخفيف ، فقدر : بمعنى فقتر ، خلا
أبي جعفر القارئ ، فإنه قرأ ذلك بالتشديد ( فقدر ) . وذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : قدر ، بمعنى يعطيه ما يكفيه ، ويقول : لو فعل ذلك به ما قال ربي أهانني .
والصواب من قراءة ذلك عندنا بالتخفيف ؛ لإجماع الحجة من القراء عليه .
وقوله : (
كلا بل لا تكرمون اليتيم )
اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله : ( كلا ) في هذا الموضع ، وما الذي أنكر بذلك ، فقال بعضهم : أنكر جل ثناؤه أن يكون سبب كرامته من أكرم كثرة ماله ، وسبب إهانته من أهان قلة ماله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) ما أسرع ما كفر ابن
آدم ، يقول الله جل ثناؤه : كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا ، ولا أهين من أهنت بقلتها ، ولكن إنما
أكرم من أكرمت بطاعتي ، وأهين من أهنت بمعصيتي .
وقال آخرون : بل أنكر جل ثناؤه حمد الإنسان ربه على نعمه دون فقره ، وشكواه الفاقة ، وقالوا : معنى الكلام ، كلا ؛ أي : لم يكن ينبغي أن يكون هكذا ، ولكن كان ينبغي أن يحمده على الأمرين جميعا ، على الغنى والفقر .
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن
قتادة لدلالة قوله : (
بل لا تكرمون اليتيم ) والآيات التي بعدها على أنه إنما أهان من أهان بأنه لا يكرم اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ، وسائر المعاني التي عدد ، وفي إبانته عن السبب الذي من أجله أهان من أهان ، الدلالة الواضحة على سبب تكريمه من أكرم ، وفي تبيينه ذلك عقيب قوله : (
فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) بيان واضح عن الذي أنكر من قوله ما وصفنا .
وقوله : (
بل لا تكرمون اليتيم ) يقول تعالى ذكره : بل إنما أهنت من أهنت
[ ص: 414 ] من أجل أنه لا يكرم اليتيم ، فأخرج الكلام على الخطاب ، فقال : بل لستم تكرمون اليتيم ، فلذلك أهنتكم (
ولا تحاضون على طعام المسكين ) .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه من
أهل المدينة أبو جعفر وعامة قراء
الكوفة (
بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون ) بالتاء أيضا وفتحها وإثبات الألف فيها ، بمعنى : ولا يحض بعضكم بعضا على طعام المسكين . وقرأ ذلك بعض قراء مكة وعامة قراء
المدينة بالتاء وفتحها وحذف الألف ( ولا تحضون ) بمعنى : ولا تأمرون بإطعام المسكين . وقرأ ذلك عامة قراء
البصرة ( يحضون ) بالياء وحذف الألف بمعنى : ولا يكرم القائلون - إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه - : ربي أكرمني ، وإذا قدر عليه رزقه : ربي أهانني - اليتيم ( ولا يحضون على طعام المسكين ) وكذلك يقرأ الذين ذكرنا من
أهل البصرة ( يكرمون ) وسائر الحروف معها بالياء على وجه الخبر عن الذين ذكرت . وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأ ( تحاضون ) بالتاء وضمها وإثبات الألف ، بمعنى : ولا تحافظون .
والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه قراءات معروفات في قرأة الأمصار ، أعني : القراءات الثلاث صحيحات المعاني ، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب .
وقوله : (
وتأكلون التراث أكلا لما ) يقول تعالى ذكره : وتأكلون أيها الناس الميراث أكلا لما ، يعني : أكلا شديدا لا تتركون منه شيئا ، وهو من قولهم : لممت ما على الخوان أجمع ، فأنا ألمه لما : إذا أكلت ما عليه فأتيت على جميعه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
عمرو بن سعيد بن يسار القرشي ، قال : ثنا
الأنصاري ، عن
أشعث ، عن
الحسن (
وتأكلون التراث أكلا لما ) قال : الميراث .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وتأكلون التراث ) أي : الميراث ، وكذلك في قوله : (
أكلا لما ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، (
وتأكلون التراث أكلا لما ) يقول : تأكلون أكلا شديدا .
حدثني
يعقوب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
يونس ، عن
الحسن ، في قوله :
[ ص: 415 ] (
وتأكلون التراث أكلا لما ) قال : نصيبه ونصيب صاحبه .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله : (
أكلا لما ) قال : اللم السف ، لف كل شيء .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
أكلا لما ) أي : شديدا .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : ( أكلا لما ) يقول : أكلا شديدا .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد في قول الله : (
وتأكلون التراث أكلا لما ) قال : الأكل اللم : الذي يأكل كل شيء يجده ولا يسأل ، فأكل الذي له والذي لصاحبه ، كانوا لا يورثون النساء ، ولا يورثون الصغار ، وقرأ : (
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان ) أي : لا تورثونهن أيضا ( أكلا لما ) يأكل ميراثه وكل شيء لا يسأل عنه ، ولا يدري أحلال أو حرام .
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس (
وتأكلون التراث أكلا لما ) . يقول : سفا .
حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12613ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا
عمرو بن أبي سلمة البستي ، عن
زهير ، عن
سالم ، قال : قد سمعت
بكر بن عبد الله يقول في هذه الآية : (
وتأكلون التراث أكلا لما ) قال : اللم : الاعتداء في الميراث ، يأكل ميراثه وميراث غيره .