صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وتحبون المال حبا جما ( 20 ) كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ( 21 ) وجاء ربك والملك صفا صفا ( 22 ) وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ( 23 ) ) .

يعني تعالى ذكره بقوله : ( وتحبون المال حبا جما ) وتحبون جمع المال أيها الناس واقتناءه حبا كثيرا شديدا ، من قولهم : قد جم الماء في الحوض : إذا اجتمع ، [ ص: 416 ] ومنه قول زهير بن أبي سلمى :


فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم



وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وتحبون المال حبا جما ) يقول : شديدا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وتحبون المال حبا جما ) فيحبون كثرة المال .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( حبا جما ) قال : الجم : الكثير .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وتحبون المال حبا جما ) أي : حبا شديدا .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( حبا جما ) : يحبون كثرة المال .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وتحبون المال حبا جما ) قال : الجم : الشديد .

ويعني جل ثناؤه بقوله : ( كلا ) : ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ، ثم أخبر جل ثناؤه عن ندمهم على أفعالهم السيئة في الدنيا ، وتلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم الندم ، فقال جل ثناؤه : ( إذا دكت الأرض دكا دكا ) يعني : إذا رجت وزلزلت زلزلة ، وحركت تحريكا بعد تحريك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 417 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( إذا دكت الأرض دكا دكا ) يقول : تحريكها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حرملة بن عمران ، أنه سمع عمر مولى غفرة يقول : إذا سمعت الله يقول : كلا ؛ فإنما يقول : كذبت .

وقوله : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) يقول تعالى ذكره : وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفا صفا بعد صف .

كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر وعبد الوهاب ، قالا ثنا عوف ، عن أبي المنهال ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وزيد في سعتها كذا وكذا ، وجمع الخلائق بصعيد واحد ، جنهم وإنسهم ، فإذا كان ذلك اليوم قيضت هذه السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض ، ولأهل السماء وحدهم أكثر من أهل الأرض جنهم وإنسهم بضعف فإذا نثروا على وجه الأرض فزعوا منهم ، فيقولون : أفيكم ربنا ؟ فيفزعون من قولهم ويقولون : سبحان ربنا ليس فينا ، وهو آت ، ثم تقاض السماء الثانية ، ولأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم ، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض ، فيقولون : أفيكم ربنا ؟ فيفزعون من قولهم ويقولون : سبحان ربنا ، ليس فينا ، وهو آت ، ثم تقاض السماوات سماء سماء ، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت أكثر من أهل السماوات التي تحتها ومن جميع أهل الأرض بضعف ، فإذا نثروا على وجه الأرض ، فزع إليهم أهل الأرض ، فيقولون لهم مثل ذلك ، ويرجعون إليهم مثل ذلك ، حتى تقاض السماء السابعة ، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ست سماوات ، ومن جميع أهل الأرض بضعف ، فيجيء الله فيهم والأمم جثي صفوف ، وينادي مناد : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، ليقم الحمادون لله على كل حال ; قال : فيقومون فيسرحون إلى الجنة ، ثم ينادي الثانية : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، أين الذين كانت تتجافى [ ص: 418 ] جنوبهم عن المضاجع ، يدعون ربهم خوفا وطمعا ، ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة; ثم ينادي الثانية : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم : أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ; فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة خرج عنق من النار ، فأشرف على الخلائق ، له عينان تبصران ، ولسان فصيح ، فيقول : إني وكلت منكم بثلاثة : بكل جبار عنيد ، فيلتقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم ، فيحبس بهم في جهنم ، ثم يخرج ثانية فيقول : إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله فيلتقطهم لقط الطير حب السمسم ، فيحبس بهم في جهنم ، ثم يخرج ثالثة ، قال عوف : قال أبو المنهال : حسبت أنه يقول : وكلت بأصحاب التصاوير ، فيلتقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم ، فيحبس بهم في جهنم ، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة ، ومن هؤلاء ثلاثة ، نشرت الصحف ، ووضعت الموازين ، ودعي الخلائق للحساب .

حدثني موسى بن عبد الرحمن قال : ثنا أبو أسامة ، عن الأجلح ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : إذا كان يوم القيامة ، أمر الله السماء الدنيا بأهلها ، ونزل من فيها من الملائكة ، وأحاطوا بالأرض ومن عليها ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، ثم الرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ، فصفوا صفا دون صف ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم ، فإذا رآها أهل الأرض ندوا ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه فذلك قول الله : ( إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ) ، وذلك قوله : ( وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم ) وقوله : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) وذلك قول الله : ( وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ) .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " توقفون موقفا واحدا يوم القيامة مقدار سبعين عاما ، لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم ، قد حصر [ ص: 419 ] عليكم ، فتبكون حتى ينقطع الدمع ، ثم تدمعون دما وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان ، أو يلجمكم فتضجون ، ثم تقولون من يشفع لنا إلى ربنا ، فيقضي بيننا ، فيقولون من أحق بذلك من أبيكم ، جعل الله تربته وخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلمه قبلا فيؤتى آدم صلى الله عليه وسلم فيطلب ذلك إليه فيأبى ، ثم يستقرون الأنبياء نبيا نبيا ، كلما جاءوا نبيا أبى " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حتى يأتوني ، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفحص " ، قال أبو هريرة : يا رسول الله ، ما الفحص ؟ قال : " قدام العرش ، فأخر ساجدا ، فلا أزال ساجدا حتى يبعث الله إلي ملكا ، فيأخذ بعضدي ، فيرفعني ثم يقول الله لي : محمد ؟ وهو أعلم ، فأقول : نعم ، فيقول : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة ، شفعني في خلقك فاقض بينهم ، فيقول : قد شفعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينكم" . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأنصرف حتى أقف مع الناس ، فبينا نحن وقوف ، سمعنا حسا من السماء شديدا ، فهالنا ، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت الأرض ، بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، وقلنا لهم : أفيكم ربنا؟ قالوا : لا وهو آت ، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة ، وبمثلي من فيها من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا وهو آت . ثم نزل أهل السماوات على قدر ذلك من الضعف حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة ، ولهم زجل من تسبيحهم ، يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان رب العرش ذي الجبروت ، سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، قدوس قدوس ، سبحان ربنا الأعلى سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والسلطان والعظمة سبحانه أبدا أبدا ، يحمل عرشه يومئذ ثمانية ، وهم اليوم أربعة ، أقدامهم على تخوم الأرض السفلى ، والسماوات إلى حجزهم ، والعرش على مناكبهم ، فوضع الله عرشه حيث شاء من الأرض ، ثم ينادي بنداء يسمع الخلائق فيقول يا معشر الجن والإنس ، إني قد أنصت منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا ، أسمع كلامكم ، وأبصر أعمالكم ، فأنصتوا إلي ، فإنما هي صحفكم وأعمالكم [ ص: 420 ] تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، ثم يأمر الله جهنم فتخرج منها عنقا ساطعا مظلما ، ثم يقول الله : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ) إلى قوله : ( هذه جهنم التي كنتم توعدون ) ، ( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ) فيتميز الناس ويجثون ، وهي التي يقول الله : ( وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم ) الآية ، فيقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم ، فإنه ليقيد يومئذ للجماء من ذات القرون ، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله : كونوا ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ، ثم يقضي الله سبحانه بين الجن والإنس " .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) صفوف الملائكة .

وقوله : ( وجيء يومئذ بجهنم ) يقول تعالى ذكره : وجاء الله يومئذ بجهنم .

كما حدثنا الحسن بن عرفة قال : ثنا مروان الفزاري ، عن العلاء بن خالد الأسدي ، عن شقيق بن سلمة ، قال : قال عبد الله بن مسعود ، في قوله : ( وجيء يومئذ بجهنم ) قال : جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودونها .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن عاصم ابن بهدلة ، عن أبي وائل ( وجيء يومئذ بجهنم ) قال : يجاء بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن قتادة ، قال : جنبتيه : الجنة والنار; قال : هذا حين ينزل من عرشه إلى كرسيه لحساب خلقه ، وقرأ : ( وجيء يومئذ بجهنم ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وجيء يومئذ بجهنم ) قال : جيء بها مزمومة .

وقوله : ( يومئذ يتذكر الإنسان ) يقول تعالى ذكره : يومئذ يتذكر الإنسان تفريطه في الدنيا في طاعة الله ، وفيما يقرب إليه من صالح الأعمال ( وأنى له الذكرى ) يقول : من أي وجه له التذكير .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 421 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وأنى له الذكرى ) يقول : وكيف له

التالي السابق


الخدمات العلمية