القول في تأويل قوله تعالى : (
قد أفلح من زكاها ( 9 )
وقد خاب من دساها ( 10 )
كذبت ثمود بطغواها ( 11 )
إذ انبعث أشقاها ( 12 )
فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ( 13 )
فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ( 14 )
ولا يخاف عقباها ( 15 ) ) .
قوله : (
قد أفلح من زكاها ) يقول : قد أفلح من زكى الله نفسه ، فكثر تطهيرها من الكفر والمعاصي ، وأصلحها بالصالحات من الأعمال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس (
قد أفلح من زكاها ) يقول : قد أفلح من زكى الله نفسه .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
خصيف ، عن
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير وعكرمة : (
قد أفلح من زكاها ) قالوا : من أصلحها .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
خصيف ، عن
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ، ولم يذكر
عكرمة .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
قد أفلح من زكاها ) من عمل خيرا زكاها بطاعة الله .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال :
ثنا ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
قد أفلح من زكاها ) قال : قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
قد أفلح من زكاها ) يقول : قد أفلح من زكى الله نفسه .
وهذا هو موضع القسم ; كما حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، [ ص: 457 ] عن
قتادة ، قال : قد وقع القسم هاهنا (
قد أفلح من زكاها ) وقد ذكرت ما تقول أهل العربية في ذلك فيما مضى من نظائره قبل .
وقوله : (
وقد خاب من دساها ) يقول تعالى ذكره : وقد خاب في طلبته ، فلم يدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح من دساها يعني : من دسس الله نفسه فأخملها ، ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي ، وترك طاعة الله . وقيل : دساها وهي دسسها ، فقلبت إحدى سيناتها ياء ، كما قال
العجاج :
تقضي البازي إذا البازي كسر
يريد : تقضض . وتظنيت هذا الأمر ، بمعنى : تظننت ، والعرب تفعل ذلك كثيرا ، فتبدل في الحرف المشددة بعض حروفه ، ياء أحيانا ، وواوا أحيانا ; ومنه قول الآخر :
يذهب بي في الشعر كل فن حتى يرد عني التظني
يريد : التظنن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس (
وقد خاب من دساها ) يقول : وقد خاب من دسى الله نفسه فأضله .
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : (
وقد خاب من دساها ) يعني : تكذيبها .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
سفيان ، عن
خصيف ، عن
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير (
وقد خاب من دساها ) قال أحدهما : أغواها ، وقال الآخر : أضلها .
[ ص: 458 ]
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
خصيف ، عن
مجاهد (
وقد خاب من دساها ) قال : أضلها ، وقال
سعيد : من أغواها .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
من دساها ) قال : أغواها .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
وقد خاب من دساها ) قال : أثمها وأفجرها .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال :
ثنا ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة ، مثله .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
وقد خاب ) يقول : وقد خاب من دسى الله نفسه .
وقوله : (
كذبت ثمود بطغواها ) يقول : كذبت
ثمود بطغيانها ، يعني : بعذابها الذي وعدهموه
صالح عليه السلام ، فكان ذلك العذاب طاغيا طغى عليهم ، كما قال جل ثناؤه : (
فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن كان فيه اختلاف بين أهل التأويل .
ذكر من قال القول الذي قلنا في ذلك :
حدثني
سعيد بن عمرو السكوني ، قال : ثنا
الوليد بن سلمة الفلسطيني ، قال : ثني
يزيد بن سمرة المذحجي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ، عن
ابن عباس ، في قول الله : (
كذبت ثمود بطغواها ) قال : اسم العذاب الذي جاءها ، الطغوى ، فقال : كذبت
ثمود بعذابها .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
كذبت ثمود بطغواها ) أي : الطغيان .
وقال آخرون : كذبت ثمود بمعصيتهم الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد [ ص: 459 ] (
كذبت ثمود بطغواها ) قال : معصيتها .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
كذبت ثمود بطغواها ) قال : بغيانهم وبمعصيتهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك بأجمعها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : أخبرني
يحيى بن أيوب وابن لهيعة ، عن
عمارة بن غزية ، عن
محمد بن رفاعة القرظي ، عن
محمد بن كعب ، أنه قال : (
كذبت ثمود بطغواها ) قال : بأجمعها .
حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12613ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا
ابن أبي مريم ، قال : أخبرني
يحيى بن أيوب ، قال : ثني
عمارة بن غزية ، عن
محمد بن رفاعة القرظي ، عن
محمد بن كعب ، مثله .
وقيل ( طغواها ) بمعنى : طغيانهم ، وهما مصدران للتوفيق بين رءوس الآي ؛ إذ كانت الطغوى أشبه بسائر رءوس الآيات في هذه السورة ، وذلك نظير قوله : (
وآخر دعواهم ) بمعنى : وآخر دعائهم .
وقوله : (
إذ انبعث أشقاها ) يقول : إذ ثار أشقى
ثمود ، وهو
قدار بن سالف .
كما حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
الطفاوي ، عن
هشام ، عن أبيه ، عن
عبد الله بن زمعة ، nindex.php?page=hadith&LINKID=811170قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر في خطبته الناقة ، والذي عقرها ، فقال : ( إذ انبعث أشقاها ) انبعث لها رجل عزيز عارم ، منيع في رهطه ، مثل أبي زمعة " .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قالا : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، في قوله : (
إذ انبعث أشقاها ) يعني أحيمر
ثمود .
وقوله : (
فقال لهم رسول الله ) يعني بذلك جل ثناؤه :
صالحا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال
لثمود صالح : (
ناقة الله وسقياها ) احذروا ناقة الله وسقياها ، وإنما حذرهم سقيا الناقة ؛ لأنه كان تقدم إليهم عن أمر الله ، أن للناقة شرب يوم ، ولهم شرب يوم آخر ، غير يوم الناقة ، على ما قد بينت فيما مضى قبل .
وكما حدثني
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها )
[ ص: 460 ] قسم الله الذي قسم لها من هذا الماء .
وقوله : (
فكذبوه فعقروها ) يقول : فكذبوا
صالحا في خبره الذي أخبرهم به ، من أن الله الذي جعل شرب الناقة يوما ، ولهم شرب يوم معلوم ، وأن الله يحل بهم نقمته ، إن هم عقروها ، كما وصفهم جل ثناؤه فقال : (
كذبت ثمود وعاد بالقارعة ) ، وقد يحتمل أن يكون التكذيب بالعقر . وإذا كان ذلك كذلك ، جاز تقديم التكذيب قبل العقر ، والعقر قبل التكذيب ، وذلك أن كل فعل وقع عن سبب حسن ابتداؤه قبل السبب وبعده ، كقول القائل : أعطيت فأحسنت ، وأحسنت فأعطيت ; لأن الإعطاء هو الإحسان ، ومن الإحسان الإعطاء ، وكذلك لو كان العقر هو سبب التكذيب ، جاز تقديم ؛ أي : ذلك شاء المتكلم . وقد زعم بعضهم أن قوله : ( فكذبوه ) كلمة مكتفية بنفسها ، وأن قوله : ( فعقروها ) جواب لقوله : (
إذ انبعث أشقاها ) كأنه قيل : إذ انبعث أشقاها فعقرها ، فقال : وكيف قيل (
فكذبوه فعقروها ) وقد كان القوم قبل قتل الناقة مسلمين ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم آخر . قيل : جاء الخبر أنهم بعد تسليمهم ذلك أجمعوا على منعها الشرب ، ورضوا بقتلها ، وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها ، وعقرها من عقرها ولذلك نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم ، فقال جل ثناؤه : (
فكذبوه فعقروها ) .
وقوله : (
فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ) يقول تعالى ذكره : فدمر عليهم ربهم بذنبهم ذلك ، وكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله
صالحا ، وعقرهم ناقته ( فسواها ) يقول : فسوى الدمدمة عليهم جميعهم ، فلم يفلت منهم أحد .
كما حدثني
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ) ذكر لنا أن أحيمر
ثمود أبى أن يعقرها ، حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها .
حدثني
بشر بن آدم ، قال : ثنا
قتيبة ، قال : ثنا
أبو هلال ، قال : سمعت
الحسن يقول : لما عقروا الناقة طلبوا فصيلها ، فصار في قارة الجبل ، فقطع الله قلوبهم .
وقوله : (
ولا يخاف عقباها ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا يخاف تبعة دمدمته عليهم .
[ ص: 461 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله : (
ولا يخاف عقباها ) قال : لا يخاف الله من أحد تبعة .
حدثني
إبراهيم بن المستمر ، قال : ثنا
عثمان بن عمرو ، قال : ثنا
عمر بن مرثد ، عن
الحسن ، في قوله : (
ولا يخاف عقباها ) قال : ذاك ربنا تبارك وتعالى ، لا يخاف تبعة مما صنع بهم .
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
عمرو بن منبه ، هكذا هو في كتابي ، سمعت
الحسن قرأ : (
ولا يخاف عقباها ) قال : ذلك الرب صنع ذلك بهم ، ولم يخف تبعة .
حدثني
يعقوب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
أبي رجاء ، عن
الحسن ، في قوله : (
ولا يخاف عقباها ) قال : لا يخاف تبعتهم .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
ولا يخاف عقباها ) يقول : لا يخاف أن يتبع بشيء مما صنع بهم .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
ولا يخاف عقباها ) قال
محمد بن عمرو في حديثه ، قال الله : (
ولا يخاف عقباها ) . وقال
الحارث في حديثه : الله لا يخاف عقباها .
حدثني
محمد بن سنان ، قال : ثنا
يعقوب ، قال : ثنا
رزين بن إبراهيم ، عن
أبي سليمان ، قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=15558بكر بن عبد الله المزني يقول في قوله : (
ولا يخاف عقباها ) قال : لا يخاف الله التبعة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولم يخف الذي عقرها عقباها ؛ أي : عقبى فعلته التي فعل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
أبو كريب ، قال : ثنا
جابر بن نوح ، قال : ثنا
أبو روق ، قال : ثنا
الضحاك (
ولا يخاف عقباها ) قال : لم يخف الذي عقرها عقباها .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
ولا يخاف عقباها ) قال : لم يخف الذي عقرها عقباها .
[ ص: 462 ]
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي (
ولا يخاف عقباها ) قال : الذي لا يخاف الذي صنع ، عقبى ما صنع .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء
الحجاز والشام (
فلا يخاف عقباها ) بالفاء ، وكذلك ذلك في مصاحفهم ، وقرأته عامة قراء
العراق في المصرين بالواو (
ولا يخاف عقباها ) وكذلك هو في مصاحفهم .
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان ، غير مختلفي المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
واختلفت القراء في إمالة ما كان من ذوات الواو في هذه السورة وغيرها ، كقوله : (
والقمر إذا تلاها ) (
وما طحاها ) ونحو ذلك ، فكان يفتح ذلك كله عامة قراء
الكوفة ، ويميلون ما كان من ذوات الياء ، غير
عاصم nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، فإن
عاصما كان يفتح جميع ذلك ما كان منه من ذوات الواو وذوات الياء ، لا يضجع منه شيئا .
وكان
الكسائي يكسر ذلك كله . وكان
أبو عمرو ينظر إلى اتساق رءوس الآي ، فإن كانت متسقة على شيء واحد أمال جميعها ، وأما عامة قراء
المدينة فإنهم لا يميلون شيئا من ذلك الإمالة الشديدة ، ولا يفتحونه الفتح الشديد ، ولكن بين ذلك وأفصح ذلك وأحسنه أن ينظر إلى ابتداء السورة ، فإن كانت رءوسها بالياء أجرى جميعها بالإمالة غير الفاحشة ، وإن كانت رءوسها بالواو فتحت وجرى جميعها بالفتح غير الفاحش ، وإذا انفرد نوع من ذلك في موضع أميل ذوات الياء الإمالة المعتدلة ، وفتح ذوات الواو الفتح المتوسط ، وإن أميلت هذه ، وفتحت هذه لم يكن لحنا ، غير أن الفصيح من الكلام هو الذي وصفنا صفته .
آخر تفسير سورة والشمس وضحاها