[ ص: 617 ] [ ص: 618 ] [ ص: 619 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في
تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( لإيلاف قريش ( 1 )
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ( 2 )
فليعبدوا رب هذا البيت ( 3 )
الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( 4 ) ) .
اختلفت القراء في قراءة : (
لإيلاف قريش إيلافهم ) ، فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار بياء بعد همز لإيلاف وإيلافهم ، سوى
أبي جعفر ، فإنه وافق غيره في قوله (
لإيلاف ) فقرأه بياء بعد همزة ، واختلف عنه في قوله (
إيلافهم ) فروي عنه أنه كان يقرأه : " إلفهم " على أنه مصدر من ألف يألف إلفا ، بغير ياء . وحكى بعضهم عنه أنه كان يقرؤه : " إلافهم " بغير ياء مقصورة الألف .
والصواب من القراءة في ذلك عندي : من قرأه : (
لإيلاف قريش إيلافهم ) بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة ، من آلفت الشيء أولفه إيلافا ، لإجماع الحجة من القراء عليه . وللعرب في ذلك لغتان : آلفت ، وألفت ; فمن قال : آلفت بمد الألف قال : فأنا أؤالف إيلافا ; ومن قال : ألفت بقصر الألف قال : فأنا آلف إلفا ، وهو رجل آلف إلفا . وحكي عن
عكرمة أنه كان يقرأ ذلك : " لتألف
قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف " .
حدثني بذلك
أبو كريب ، قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ، عن
أبي مكين ، عن
عكرمة .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ما حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
ليث ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16128شهر بن حوشب ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=811197عن أسماء بنت يزيد ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ : " إلفهم رحلة الشتاء والصيف " .
واختلف أهل العربية في المعنى الجالب هذه اللام في قوله : (
لإيلاف قريش ) ،
[ ص: 620 ] فكان بعض نحويي
البصرة يقول : الجالب لها قوله : (
فجعلهم كعصف مأكول ) فهي في قول هذا القائل صلة لقوله جعلهم ، فالواجب على هذا القول ، أن يكون معنى الكلام : ففعلنا بأصحاب الفيل هذا الفعل ، نعمة منا على أهل هذا البيت ، وإحسانا منا إليهم ، إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف ، فتكون اللام في قوله (
لإيلاف ) بمعنى إلى ، كأنه قيل : نعمة لنعمة وإلى نعمة ؛ لأن إلى موضع اللام ، واللام موضع إلى .
وقد قال معنى هذا القول بعض أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى : وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قوله : (
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ) قال : إيلافهم ذلك فلا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف .
حدثني
إسماعيل بن موسى السدي ، قال : أخبرنا
شريك ، عن
إبراهيم بن المهاجر ، عن
مجاهد (
لإيلاف قريش ) قال : نعمتي على
قريش .
حدثني
محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : ثنا
فروة بن أبي المغراء الكندي ، قال : ثنا
شريك ، عن
إبراهيم بن المهاجر ، عن
مجاهد ، مثله .
حدثنا
عمرو بن علي ، قال : ثنا
عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، قال : ثنا
خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة قال : ثني أبي ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
لإيلاف قريش ) قال : نعمتي على
قريش .
وكان بعض نحويي
الكوفة يقول : قد قيل هذا القول ، ويقال : إنه تبارك وتعالى عجب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : اعجب يا
محمد لنعم الله على
قريش ، في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . ثم قال : فلا يتشاغلوا بذلك عن الإيمان واتباعك ، يستدل بقوله : (
فليعبدوا رب هذا البيت ) .
وكان بعض أهل التأويل يوجه تأويل قوله : (
لإيلاف قريش ) إلى ألفة بعضهم بعضا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قول الله : (
لإيلاف قريش ) فقرأ : (
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) إلى آخر السورة ،
[ ص: 621 ] قال : هذا لإيلاف
قريش ، صنعت هذا بهم لألفة
قريش ؛ لئلا أفرق ألفتهم وجماعتهم ، وإنما جاء صاحب الفيل ليستبيد حريمهم ، فصنع الله ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن هذه اللام بمعنى التعجب . وأن معنى الكلام : اعجبوا لإيلاف
قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف . والعرب إذا جاءت بهذه اللام ، فأدخلوها في الكلام للتعجب اكتفوا بها دليلا على التعجب من إظهار الفعل الذي يجلبها ، كما قال الشاعر :
أغرك أن قالوا لقرة شاعرا فيالأباه من عريف وشاعر
فاكتفى باللام دليلا على التعجب من إظهار الفعل ، وإنما الكلام : أغرك أن قالوا : اعجبوا لقرة شاعرا ، فكذلك قوله :
(
لإيلاف ) .
وأما القول الذي قاله من حكينا قوله ، أنه من صلة قوله : (
فجعلهم كعصف مأكول ) فإن ذلك لو كان كذلك ، لوجب أن يكون " لإيلاف " بعض " ألم تر " وأن لا تكون سورة منفصلة من " ألم تر " وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان ، كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك . ولو كان قوله : (
لإيلاف قريش ) من صلة قوله : (
فجعلهم كعصف مأكول ) لم تكن " ألم تر " تامة حتى توصل بقوله : (
لإيلاف قريش ) لأن الكلام لا يتم إلا بانقضاء الخبر الذي ذكر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، في قوله : ( إلفهم رحلة الشتاء والصيف ) يقول : لزومهم .
[ ص: 622 ]
حدثني
محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، في قوله : (
لإيلاف قريش ) قال : نهاهم عن الرحلة ، وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيت ، وكفاهم المؤنة ، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف ، فلم يكن لهم راحة في شتاء ولا صيف ، فأطعمهم بعد ذلك من جوع ، وآمنهم من خوف ، وألفوا الرحلة ، فكانوا إذا شاءوا ارتحلوا ، وإذا شاءوا أقاموا ، فكان ذلك من نعمة الله عليهم .
حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، قال : ثني
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
داود ، عن
عكرمة قال : كانت
قريش قد ألفوا
بصرى واليمن يختلفون إلى هذه في الشتاء ، وإلى هذه في الصيف (
فليعبدوا رب هذا البيت ) فأمرهم أن يقيموا
بمكة .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، عن
إسماعيل ، عن
أبي صالح (
لإيلاف قريش إيلافهم ) قال : كانوا تجارا ، فعلم الله حبهم
للشام .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
لإيلاف قريش ) قال : عادة
قريش عادتهم رحلة الشتاء والصيف .
حدثت عن
الحسين ، قال : سمعت
أبا معاذ يقول : ثنا
عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : (
لإيلاف قريش ) كانوا ألفوا الارتحال في القيظ والشتاء .
وقوله : (
إيلافهم ) مخفوضة على الإبدال ، كأنه قال : لإيلاف
قريش لإيلافهم ، رحلة الشتاء والصيف ، وأما الرحلة فنصبت بقوله : (
إيلافهم ) ، ووقوعه عليها .
وقوله : (
رحلة الشتاء والصيف ) يقول : رحلة
قريش الرحلتين : إحداهما إلى
الشام في الصيف ، والأخرى إلى
اليمن في الشتاء .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله : (
رحلة الشتاء والصيف ) قال : كانت لهم رحلتان : الصيف إلى
الشام ، والشتاء إلى
اليمن في التجارة ، إذا كان الشتاء امتنع
الشام منهم لمكان البرد ، وكانت رحلتهم في الشتاء إلى
اليمن .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان (
رحلة الشتاء والصيف ) قال : كانوا تجارا .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان ، ثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
الكلبي (
رحلة الشتاء والصيف ) قال : كانت لهم
[ ص: 623 ] رحلتان : رحلة في الشتاء إلى
اليمن ، ورحلة في الصيف إلى
الشام .
حدثنا
عمرو بن علي ، قال : ثنا
عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، قال : ثنا
خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة قال : ثني أبي ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ) قال : كانوا يشتون
بمكة ، ويصيفون
بالطائف .
وقوله : (
فليعبدوا رب هذا البيت ) يقول : فليقيموا بموضعهم ووطنهم من
مكة ، وليعبدوا رب هذا البيت ، يعني بالبيت : الكعبة .
كما حدثني
يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
هشيم ، قال : أخبرنا
مغيرة ، عن
إبراهيم ، أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، صلى المغرب
بمكة ، فقرأ : (
لإيلاف قريش ) فلما انتهى إلى قوله : (
فليعبدوا رب هذا البيت ) أشار بيده إلى البيت .
حدثنا
عمرو بن علي ، قال : ثنا
عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، قال : ثنا
خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : ثني أبي ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، في قوله (
فليعبدوا رب هذا البيت ) قال : الكعبة .
وقال بعضهم : أمروا أن يألفوا عبادة رب
مكة كإلفهم الرحلتين .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا
مروان ، عن
عاصم الأحول ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس ، في قول الله : (
لإيلاف قريش ) قال : أمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت ، كإلفهم رحلة الشتاء والصيف .
وقوله : (
الذي أطعمهم من جوع ) يقول : الذي أطعم
قريشا من جوع .
كما حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، قوله : (
الذي أطعمهم من جوع ) يعني :
قريشا أهل
مكة بدعوة
إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال : (
وارزقهم من الثمرات ) .
(
وآمنهم من خوف ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله : (
وآمنهم من خوف ) فقال بعضهم : معنى ذلك : أنه آمنهم مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال ، والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض .
ذكر من قال ذلك :
حدثني
علي ، قال : ثنا
أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس ، [ ص: 624 ] (
وآمنهم من خوف ) حيث قال
إبراهيم عليه السلام : (
رب اجعل هذا البلد آمنا ) .
حدثني
محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : (
وآمنهم من خوف ) قال : آمنهم من كل عدو في حرمهم .
حدثنا
بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : (
لإيلاف قريش إيلافهم ) قال : كان أهل
مكة تجارا يتعاورون ذلك شتاء وصيفا ، آمنين في العرب ، وكانت العرب يغير بعضها على بعض ، لا يقدرون على ذلك ، ولا يستطيعونه من الخوف ، حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في حي من أحياء العرب ، وإذا قيل حرمي خلي عنه وعن ماله ، تعظيما لذلك فيما أعطاهم الله من الأمن .
حدثنا
ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة (
وآمنهم من خوف ) قال : كانوا يقولون : نحن من حرم الله ، فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية ، يأمنون بذلك ، وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أغير عليه .
حدثني
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد في قوله : (
وآمنهم من خوف ) قال : كانت العرب يغير بعضها على بعض ، ويسبي بعضها بعضا ، فأمنوا من ذلك لمكان الحرم ، وقرأ : (
أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ) .
وقال آخرون : عني بذلك : وآمنهم من الجذام .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا
ورقاء ، جميعا قال : قال
الضحاك : (
وآمنهم من خوف ) قال : من خوفهم من الجذام .
حدثنا
ابن حميد ، قال : ثنا
مهران ، عن
سفيان (
وآمنهم من خوف ) قال : من الجذام وغيره .
حدثنا
أبو كريب ، قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع : سمعت أطعمهم من جوع ، قال : الجوع . (
وآمنهم من خوف ) الخوف : الجذام .
حدثنا
عمرو بن علي ، قال : ثنا
عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، قال : ثنا
خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : ثني أبي ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس (
وآمنهم من خوف ) قال : الخوف : الجذام .
[ ص: 625 ]
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه ( آمنهم من خوف ) والعدو مخوف منه ، والجذام مخوف منه ، ولم يخصص الله الخبر عن أنه آمنهم من العدو دون الجذام ، ولا من الجذام دون العدو ، بل عم الخبر بذلك ، فالصواب أن يعم كما عم جل ثناؤه ، فيقال : آمنهم من المعنيين كليهما .
آخر تفسير سورة
قريش