القول في
تأويل قوله تعالى ( والصابرين في البأساء والضراء )
قال
أبو جعفر : وقد بينا تأويل " الصبر " فيما مضى قبل .
فمعنى الكلام : والمانعين أنفسهم - في البأساء والضراء وحين البأس - مما يكرهه الله لهم ، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته . ثم قال أهل التأويل في معنى "
البأساء والضراء " بما : -
2539 - حدثني به
الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثني أبي - وحدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو بن حماد - قالا جميعا ، حدثنا
أسباط عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17058مرة الهمداني عن
ابن مسعود أنه قال : أما البأساء فالفقر ، وأما الضراء فالسقم .
2540 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي - وحدثني
المثنى قال : حدثنا
الحماني - قالا جميعا ، حدثنا
شريك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
مرة عن
عبد الله في قوله : "
والصابرين في البأساء والضراء " قال : البأساء الجوع ، والضراء المرض .
2541 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
شريك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
مرة عن
عبد الله قال : البأساء الحاجة ، والضراء المرض .
2542 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قال :
[ ص: 350 ] كنا نحدث أن البأساء البؤس والفقر ، وأن الضراء السقم . وقد قال النبي
أيوب صلى الله عليه وسلم (
أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) ) [ سورة الأنبياء : 83 ] .
2543 - حدثت عن
عمار بن الحسن قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن
الربيع في قوله : "
والصابرين في البأساء والضراء " قال : البؤس : الفاقة والفقر ، والضراء : في النفس؛ من وجع أو مرض يصيبه في جسده .
2544 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر عن
قتادة في قوله : "
البأساء والضراء " قال : البأساء : البؤس ، والضراء : الزمانة في الجسد .
2545 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو نعيم قال : حدثنا
عبيد ، عن
الضحاك قال : "
البأساء والضراء " ، المرض .
2546 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : "
والصابرين في البأساء والضراء " قال : البأساء : البؤس والفقر ، والضراء : السقم والوجع .
2547 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
عبيد بن الطفيل قال : سمعت
الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية : "
والصابرين في البأساء والضراء " ، أما البأساء : الفقر ، والضراء : المرض .
قال
أبو جعفر : وأما أهل العربية : فإنهم اختلفوا في ذلك . فقال بعضهم :
[ ص: 351 ] "
البأساء والضراء " ، مصدر جاء على " فعلاء " ليس له " أفعل " لأنه اسم ، كما قد جاء " أفعل " في الأسماء ليس له " فعلاء " ، نحو " أحمد " . وقد قالوا في الصفة " أفعل " ، ولم يجئ له " فعلاء " ، فقالوا : " أنت من ذلك أوجل " ، ولم يقولوا : " وجلاء " .
وقال بعضهم : هو اسم للفعل . فإن " البأساء " ، البؤس ، " والضراء " الضر . وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث ، وإن شئت لمذكر ، كما قال
زهير :
فتنتج لكم غلمان أشأم ، كلهم كأحمر عاد ، ثم ترضع فتفطم
يعني فتنتج لكم غلمان شؤم .
وقال بعضهم : لو كان ذلك اسما يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث ، لجاز إجراء " أفعل " في النكرة ، ولكنه اسم قام مقام المصدر . والدليل على ذلك قوله : " لئن طلبت نصرتهم لتجدنهم غير أبعد " ، بغير إجراء . وقال : إنما كان اسما للمصدر ، لأنه إذا ذكر علم أنه يراد به المصدر .
وقال غيره : لو كان ذلك مصدرا فوقع بتأنيث ، لم يقع بتذكير ، ولو وقع
[ ص: 352 ] بتذكير ، لم يقع بتأنيث . لأن من سمي ب " أفعل " لم يصرف إلى " فعلى " ، ومن سمي ب " فعلى " لم يصرف إلى " أفعل " ، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره ، ولكنهما لغتان . فإذا وقع بالتذكير ، كان بأمر " أشأم " ، وإذا وقع " البأساء والضراء " ، وقع : الخلة البأساء ، والخلة الضراء . وإن كان لم يبن على " الضراء " ، " الأضر " ، ولا على " الأشأم " ، " الشأماء " . لأنه لم يرد من تأنيثه التذكير ، ولا من تذكيره التأنيث ، كما قالوا : " امرأة حسناء " ، ولم يقولوا : " رجل أحسن " . وقالوا : " رجل أمرد " ، ولم يقولوا : " امرأة مرداء " . فإذا قيل : " الخصلة الضراء " و" الأمر الأشأم " ، دل على المصدر ، ولم يحتج إلى أن يكون اسما ، وإن كان قد كفى من المصدر .
وهذا قول مخالف تأويل من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل "
البأساء والضراء " ، وإن كان صحيحا على مذهب العربية . وذلك أن أهل التأويل تأولوا " البأساء " بمعنى البؤس ، " والضراء " بمعنى الضر في الجسد . وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجهوا "البأساء والضراء " إلى أسماء الأفعال ، دون صفات الأسماء ونعوتها . فالذي هو أولى ب "
البأساء والضراء " ، على قول أهل التأويل ، أن تكون " البأساء والضراء " أسماء أفعال ، فتكون " البأساء " اسما " للبؤس " ، و" الضراء " اسما " للضر " .
وأما " الصابرين " فنصب ، وهو من نعت " من " على وجه المدح . لأن من شأن العرب - إذا تطاولت صفة الواحد - الاعتراض بالمدح والذم بالنصب أحيانا ، وبالرفع أحيانا ، كما قال الشاعر :
[ ص: 353 ] إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور بذات الصليل وذات اللجم
فنصب " ليث الكتيبة " وذا " الرأي " على المدح ، والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحد ، ومنه قول الآخر :
فليت التي فيها النجوم تواضعت على كل غث منهم وسمين
غيوث الورى في كل محل وأزمة أسود الشرى يحمين كل عرين
وقد زعم بعضهم أن قوله : "
والصابرين في البأساء " ، نصب عطفا على " السائلين " .
[ ص: 354 ] كأن معنى الكلام كان عنده : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين ، وابن السبيل والسائلين والصابرين في البأساء والضراء . وظاهر كتاب الله يدل على خطأ هذا القول ، وذلك أن "
والصابرين في البأساء والضراء " ، هم أهل الزمانة في الأبدان ، وأهل الإقتار في الأموال . وقد مضى وصف القوم بإيتاء - من كان ذلك صفته - المال في قوله : "
والمساكين وابن السبيل والسائلين " ، وأهل الفاقة والفقر ، هم أهل "
البأساء والضراء " ، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء ، لم يكن ممن له قبول الصدقة ، وإنما له قبولها إذا كان جامعا إلى ضرائه بأساء ، وإذا جمع إليها بأساء ، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة " المساكين " الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله : "
والصابرين في البأساء " . وإذا كان كذلك ، ثم نصب "الصابرين في البأساء " بقوله "
وآتى المال على حبه " ، كان الكلام تكريرا بغير فائدة معنى . كأنه قيل : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين . والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عباده . ولكن معنى ذلك : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء . " والموفون " رفع لأنه من صفة " من " ، و" من " رفع ، فهو معرب بإعرابه . " والصابرين " نصب - وإن كان من صفته - على وجه المدح الذي وصفنا قبل .