القول في
تأويل قوله تعالى ( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ( 182 ) )
قال
أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية .
فقال بعضهم : تأويلها : فمن حضر مريضا وهو يوصي عند إشرافه على الموت ، فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له ، أو أن يعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به ، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه أن يصلح بينه وبين ورثته؛ بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وأن ينهاهم عن منعه مما أذن الله له فيه وأباحه له .
ذكر من قال ذلك :
2690 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : هذا حين يحضر الرجل وهو يموت ، فإذا
[ ص: 400 ] أسرف أمروه بالعدل ، وإذا قصر قالوا : افعل كذا ، أعط فلانا كذا .
2691 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح عن
مجاهد قوله : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، قال : هذا حين يحضر الرجل وهو في الموت ، فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل ، وإذا قصر عن حق قالوا : افعل كذا ، أعط فلانا كذا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خاف - من أولياء ميت ، أو والي أمر المسلمين - من موص جنفا في وصيته التي أوصى بها الميت ، فأصلح بين ورثته وبين الموصى لهم بما أوصى لهم به ، فرد الوصية إلى العدل والحق ، فلا حرج ولا إثم .
ذكر من قال ذلك :
2692 - حدثني
المثنى ، حدثنا
أبو صالح كاتب الليث ، حدثني
معاوية بن صالح عن
علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله : "
فمن خاف من موص جنفا " - يعني : إثما - يقول :
إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها ، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب .
2693 - حدثنا
الحسن بن يحيى حدثنا
عبد الرزاق ، أخبرنا
معمر عن
قتادة في قوله : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، قال : هو الرجل يوصي
[ ص: 401 ] فيحيف في وصيته ، فيردها الولي إلى الحق والعدل .
2694 - حدثنا
بشر بن معاذ ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع ، عن
سعيد عن
قتادة قوله : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، وكان
قتادة يقول : من أوصى بجور أو حيف في وصيته فردها ولي المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين ، إلى كتاب الله وإلى العدل ، فذاك له .
2695 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الرحمن بن سعد nindex.php?page=showalam&ids=12483وابن أبي جعفر ، عن أبيه عن
الربيع : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، فمن أوصى بوصية بجور ، فرده الوصي إلى الحق بعد موته ، فلا إثم عليه - قال
عبد الرحمن في حديثه : " فأصلح بينهم " ، يقول : رده الوصي إلى الحق بعد موته ، فلا إثم عليه .
2696 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
قبيصة ، عن
سفيان ، عن أبيه عن
إبراهيم : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم " ، قال : رده إلى الحق .
2697 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا
إسرائيل عن
سعيد بن مسروق ، عن
إبراهيم قال : سألته عن رجل
أوصى بأكثر من الثلث؟ قال : ارددها . ثم قرأ
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " .
2698 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا
خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال : حدثنا
أبو جعفر الرازي عن
الربيع بن أنس : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : رده الوصي إلى الحق بعد موته ، فلا إثم على الوصي .
وقال بعضهم : بل معنى ذلك : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في عطيته
[ ص: 402 ] عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض ، فلا إثم على من أصلح بينهم يعني : بين الورثة .
ذكر من قال ذلك :
2699 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثنا
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قلت
لعطاء قوله : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، قال :
الرجل يحيف أو يأثم عند موته ، فيعطي ورثته بعضهم دون بعض ، يقول الله : فلا إثم على المصلح بينهم . فقلت
لعطاء : أله أن يعطي وارثه عند الموت ، إنما هي وصية ، ولا وصية لوارث؟ قال : ذلك فيما يقسم بينهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لمن لا يرثه ، بما يرجع نفعه على من يرثه ، فأصلح بين ورثته ، فلا إثم عليه .
ذكر من قال ذلك :
2700 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج أخبرني
ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان يقول : جنفه وإثمه ، أن يوصي الرجل لبني ابنه ليكون المال لأبيهم ، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها; وذو الوارث الكثير والمال قليل ، فيوصي بثلث ماله كله ، فيصلح بينهم الموصى إليه أو الأمير . قلت : أفي حياته أم بعد موته؟ قال : ما سمعنا أحدا يقول إلا بعد موته ، وإنه ليوعظ عند ذلك .
2701 - حدثني
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
ابن عيينة عن
ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " فمن
خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم " ، قال : هو الرجل يوصي لولد ابنته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه .
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 403 ]
2702 - حدثني
موسى بن هارون قال : حدثنا
عمرو بن حماد قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه " . أما " جنفا " : فخطأ في وصيته ، وأما " إثما " : فعمدا يعمد في وصيته الظلم . فإن هذا أعظم لأجره أن لا ينفذها ، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق ، ينقص بعضا ويزيد بعضا . قال : ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين .
2703 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : " الجنف " أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية ، " والإثم " أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض ، "
فأصلح بينهم " الموصى إليه بين الوالدين والأقربين - الابن والبنون هم " الأقربون " - فلا إثم عليه . فهذا الموصى الذي أوصى إليه بذلك ، وجعل إليه ، فرأى هذا قد أجنف لهذا على هذا ، فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، فعجز الموصي أن يوصي كما أمره الله تعالى ، وعجز الموصى إليه أن يصلح ، فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم ، ففرض الفرائض .
قال
أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها : فمن خاف من موص جنفا أو إثما وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه ، أو يتعمد إثما في وصيته ، بأن
يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله ، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله ، وفي المال قلة ، وفي الورثة كثرة فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يوصى لهم ، وبين ورثة الميت ، وبين الميت ، بأن يأمر الميت في ذلك بالمعروف ويعرفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله ، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه : "
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ، وذلك هو " الإصلاح " الذي
[ ص: 404 ] قال الله تعالى ذكره : "
فأصلح بينهم فلا إثم عليه " . وكذلك لمن كان في المال فضل وكثرة وفي الورثة قلة ، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه ، فأصلح من حضره بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم ، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم ، ويبلغ بها ما رخص الله فيه من الثلث . فذلك أيضا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف .
وإنما اخترنا هذا القول ، لأن الله تعالى ذكره قال : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، يعني بذلك : فمن خاف من موص أن يجنف أو يأثم . فخوف الجنف والإثم من الموصي ، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم ، فأما بعد وجوده منه ، فلا وجه للخوف منه بأن يجنف أو يأثم ، بل تلك حال من قد جنف أو أثم ، ولو كان ذلك معناه لقيل : فمن تبين من موص جنفا أو إثما - أو أيقن أو علم - ولم يقل : فمن خاف منه جنفا .
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال : فما وجه الإصلاح حينئذ ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟
قيل : إن ذلك وإن كان من معاني الإصلاح ، فمن الإصلاح الإصلاح بين الفريقين ، فيما كان مخوفا حدوث الاختلاف بينهم فيه ، بما يؤمن معه حدوث الاختلاف . لأن " الإصلاح " ، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين ، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين - قبل وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه .
فإن قال قائل : فكيف قيل : "
فأصلح بينهم " ، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين ، أو المخوف اختلافهم ذكر؟
[ ص: 405 ]
قيل : بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم ، وهم والدا الموصي وأقربوه ، والذين أمروا بالوصية في قوله : "
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " ، ثم قال تعالى ذكره : "
فمن خاف من موص " - لمن أمرته بالوصية له - "
جنفا أو إثما فأصلح بينهم " - وبين من أمرته بالوصية له - "
فلا إثم عليه " . والإصلاح بينه وبينهم ، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي .
قال
أبو جعفر : وقد قرئ قوله : "
فمن خاف من موص " بالتخفيف في " الصاد " والتسكين في " الواو " - وبتحريك " الواو " وتشديد " الصاد " .
فمن قرأ ذلك بتخفيف " الصاد " وتسكين " الواو " ، فإنما قرأه بلغة من قال : " أوصيت فلانا بكذا " .
ومن قرأ بتحريك " الواو " وتشديد " الصاد " ، قرأه بلغة من يقول : " وصيت فلانا بكذا " . وهما لغتان للعرب مشهورتان : " وصيتك ، وأوصيتك "
وأما " الجنف " ، فهو الجور والعدول عن الحق في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر :
هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور
يقال منه : "جنف الرجل على صاحبه يجنف" - إذا مال عليه وجار - "جنفا" .
[ ص: 406 ]
فمعنى الكلام من خاف من موص جنفا له بموضع الوصية ، وميلا عن الصواب فيها ، وجورا عن القصد أو إثما بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك ، فأصلح بينهم ، فلا إثم عليه .
وبمثل الذي قلنا في معنى " الجنف " " والإثم " ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2704 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن
ابن عباس في قوله : "
فمن خاف من موص جنفا " ، يعني بالجنف : الخطأ .
2705 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
جابر بن نوح ، عن
عبد الملك عن
عطاء : "
فمن خاف من موص جنفا " ، قال : ميلا .
2706 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
عبد الملك ، عن
عطاء مثله .
2707 - حدثنا
عمرو بن علي قال : حدثنا
خالد بن الحارث nindex.php?page=showalam&ids=17376ويزيد بن هارون قالا حدثنا
عبد الملك ، عن
عطاء مثله .
2708 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
جويبر عن
الضحاك قال : الجنف الخطأ ، والإثم العمد .
2709 - حدثنا
أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا
[ أبو أحمد ] الزبيري قال : حدثنا
هشيم ، عن
جويبر ، عن
عطاء مثله .
2710 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، أما " جنفا " فخطأ في وصيته ، وأما " إثما " : فعمدا ،
يعمد في وصيته الظلم .
2711 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى [ ص: 407 ] عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، قال : خطأ أو عمدا .
2712 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الرحمن بن سعد nindex.php?page=showalam&ids=12483وابن أبي جعفر عن
أبي جعفر عن
الربيع : " فمن
خاف من موص جنفا أو إثما " ، قال : الجنف الخطأ ، والإثم العمد .
2713 - حدثنا
عمرو بن علي قال : حدثنا
خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال : حدثنا
أبو جعفر ، عن
الربيع بن أنس مثله .
2714 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
قبيصة ، عن
سفيان عن أبيه عن
إبراهيم : "
فمن خاف من موص جنفا أو إثما " ، قال : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد .
2715 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16796فضيل بن مرزوق عن
عطية : "
فمن خاف من موص جنفا " ، قال : خطأ " أو إثما " متعمدا .
2716 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الرزاق ، عن
ابن عيينة عن
ابن طاوس ، عن أبيه : "
فمن خاف من موص جنفا ، قال : ميلا .
2717 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : " جنفا " حيفا " والإثم " ميله لبعض على بعض . وكله يصير إلى واحد ، كما يكون " عفوا غفورا " و" غفورا رحيما " .
2718 - حدثنا
القاسم قال حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
ابن [ ص: 408 ] جريج قال : قال
ابن عباس : الجنف " الخطأ ، والإثم : العمد .
2719 - حدثت عن
الحسين بن الفرج قال : حدثنا
الفضل بن خالد قال : حدثنا
عبيد بن سليمان عن
الضحاك قال : الجنف الخطأ ، والإثم العمد .
وأما قوله : " إن الله غفور رحيم " ، فإنه يعني : والله غفور للموصي فيما كان حدث به نفسه من الجنف والإثم ، إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته ، فتجاوز له عما كان حدث به نفسه من الجور ، إذ لم يمض ذلك فيغفل أن يؤاخذه به " رحيم " بالمصلح بين الموصي وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره ، أو يأثم فيه له .