القول في تأويل قوله تعالى (
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله )
قال
أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله : (
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] .
وقد دللنا على أن معنى"شرى" باع ، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : "
ابتغاء مرضاة الله " فإنه يعني أن هذا الشاري يشري إذا اشترى طلب مرضاة الله .
ونصب" ابتغاء " بقوله : " يشري " ، فكأنه قال : ومن الناس من يشري [ نفسه ] من أجل ابتغاء مرضاة الله ، ثم ترك" من أجل" وعمل فيه الفعل .
وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل ، على" يشري " ، كأنه قال : لابتغاء مرضاة الله ، فلما نزع"اللام" عمل الفعل ، قال : ومثله : (
حذر الموت ) [ البقرة : 19 ] وقال الشاعر وهو
حاتم :
[ ص: 247 ] وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن قول اللئيم تكرما
وقال : لما أذهب"اللام" أعمل فيه الفعل .
وقال بعضهم : أيما مصدر وضع موضع الشرط ، وموضع"أن" فتحسن فيها"الباء" و"اللام" ، فتقول : "أتيتك من خوف الشر - ولخوف الشر - وبأن خفت الشر" ، فالصفة غير معلومة ، فحذفت وأقيم المصدر مقامها . قال : ولو كانت الصفة حرفا واحدا بعينه ، لم يجز حذفها ، كما غير جائز لمن قال : "فعلت هذا لك ولفلان" أن يسقط"اللام" .
ثم اختلف أهل التأويل في من نزلت هذه الآية فيه ومن عني بها . فقال بعضهم : نزلت في المهاجرين والأنصار ، وعني بها المجاهدون في سبيل الله .
ذكر من قال ذلك :
4000 - حدثنا
الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " ، قال : المهاجرون والأنصار .
وقال بعضهم : نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم .
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 248 ]
4001 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
عكرمة : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " ، قال : نزلت في
صهيب بن سنان ، nindex.php?page=showalam&ids=1584وأبي ذر الغفاري جندب بن السكن أخذ أهل
أبي ذر أبا ذر ، فانفلت منهم ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رجع مهاجرا عرضوا له ، وكانوا بمر
الظهران ، فانفلت أيضا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام . وأما
صهيب فأخذه أهله ، فافتدى منهم بماله ، ثم خرج مهاجرا فأدركه
قنقذ بن عمير بن جدعان ، فخرج له مما بقي من ماله ، وخلى سبيله .
4002 - حدثت عن
عمار ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12483ابن أبى جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قوله : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " الآية ، قال : كان رجل من أهل
مكة أسلم ، فأراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى
المدينة ، فمنعوه وحبسوه ، فقال لهم : أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلوا عني ، فألحق بهذا الرجل ! فأبوا . ثم إن بعضهم قال لهم : خذوا منه ما كان له من شيء وخلوا عنه ! ففعلوا ، فأعطاهم داره وماله ، ثم خرج; فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " ، الآية . فلما دنا من
المدينة تلقاه عمر في رجال ، فقال له
عمر : ربح البيع! قال : وبيعك فلا يخسر! قال : وما ذاك ؟ قال : أنزل فيك كذا وكذا .
وقال آخرون : بل عني بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيله ، أو أمر بمعروف .
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 249 ]
4003 -
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : حدثنا
حسين بن الحسن أبو عبد الله ، قال : حدثنا
أبو عون ، عن
محمد ، قال : حمل
هشام بن عامر على الصف حتى خرقه ، فقالوا : ألقى بيده !! فقال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " .
4004 - حدثنا
أبو كريب ، قال : حدثنا
مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا
إسرائيل ، عن
طارق بن عبد الرحمن ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16834قيس بن أبي حازم ، عن
المغيرة ، قال : بعث
عمر جيشا فحاصروا أهل حصن ، وتقدم رجل من
بجيلة ، فقاتل ، فقتل ، فأكثر الناس فيه يقولون : ألقى بيده إلى التهلكة! قال : فبلغ ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : كذبوا ، أليس الله عز وجل يقول : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد " ؟
4005 - حدثنا
ابن بشار ، قال : حدثنا
أبو داود ، قال : حدثنا
هشام ، عن
قتادة ، قال : حمل
هشام بن عامر على الصف حتى شقه ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " .
4006 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16069سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا
حزم بن أبي حزم ، قال : سمعت
الحسن قرأ : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد " ، أتدرون فيم أنزلت ؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافر فقال له : "قل لا إله إلا الله" ، فإذا قلتها عصمت دمك
[ ص: 250 ] ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرين نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل .
4007 - حدثني
أحمد بن حازم ، قال : حدثنا
أبو نعيم ، حدثنا
زياد بن أبي مسلم ، عن
أبي الخليل ، قال : سمع
عمر إنسانا قرأ هذه الآية : "
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " ، قال : استرجع
عمر فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون! قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل .
قال
أبو جعفر : والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل ، ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب وعن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس رضي الله عنهم ، من أن يكون عني بها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر .
وذلك أن الله جل ثناؤه وصف صفة فريقين : أحدهما منافق يقول بلسانه خلاف ما في نفسه ، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها ، وإذا لم يقتدر رامها ، وإذا نهي أخذته العزة بالإثم بما هو به آثم ، والآخر منهما بائع نفسه ، طالب من الله رضا الله . فكان الظاهر من التأويل أن الفريق الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه ، إنما شراها للوثوب بالفريق الفاجر طلب رضا الله . فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية .
وأما ما روي من نزول الآية في أمر
صهيب ، فإن ذلك غير مستنكر ، إذ كان غير مدفوع جواز نزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب ، والمعني بها كل من شمله ظاهرها .
[ ص: 251 ]
فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل وصف شاريا نفسه ابتغاء مرضاته ، فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها ، أو استقتل وإن لم يقتل ، فمعني بقوله : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" - في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه ، أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر .