القول في
تأويل قوله تعالى ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )
قال
أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى"الأمة " : في هذا الموضع ، وفي" الناس " الذين وصفهم الله بأنهم : كانوا أمة واحدة .
فقال بعضهم : هم الذين كانوا بين
آدم ونوح ، وهم عشرة قرون ، كلهم كانوا على شريعة من الحق ، فاختلفوا بعد ذلك .
ذكر من قال ذلك :
4048 -
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، قال : حدثنا
أبو داود ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17257همام بن منبه ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس ، قال : كان بين
نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، قال : وكذلك هي في قراءة
عبد الله "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا" .
[ ص: 276 ]
4049 - حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : "
كان الناس أمة واحدة " ، قال : كانوا على الهدى جميعا فاختلفوا ،
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، فكان
أول نبي بعث نوح .
قال
أبو جعفر : فتأويل"الأمة" على هذا القول الذي ذكرناه عن
ابن عباس "الدين" ، كما قال
النابغة الذبياني :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع؟
يعني ذا الدين .
فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء : كان الناس أمة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وأصل"الأمة" ، الجماعة تجتمع على دين واحد ، ثم يكتفى بالخبر عن"الأمة" من الخبر عن"الدين" ، لدلالتها عليه ، كما قال جل ثناؤه : (
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) [ سورة المائدة : 48 ، سورة النحل : 93 ] ، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة . فوجه
ابن عباس في تأويله قوله : "
كان الناس أمة واحدة " ، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا .
وقال آخرون : بل تأويل ذلك كان
آدم على الحق إماما لذريته ، فبعث الله النبيين في ولده . ووجهوا معنى"الأمة" إلى طاعة الله ، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره ، من قول الله عز وجل (
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ) [ سورة النحل : 120 ] ، يعني بقوله : " أمة " ، إماما في الخير يقتدى به ، ويتبع عليه .
ذكر من قال ذلك :
[ ص: 277 ]
4050 - حدثني
محمد بن عمرو ، قال : حدثنا
أبو عاصم ، قال : حدثنا
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : "
كان الناس أمة واحدة " ، قال :
آدم .
4051 - حدثنا
أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا
أبو أحمد ، قال : حدثنا
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد ، مثله .
4052 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد قوله : "
كان الناس أمة واحدة " ، قال :
آدم ، قال : كان بين
آدم ونوح عشرة أنبياء ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، قال
مجاهد :
آدم أمة وحده ،
وكأن من قال هذا القول ، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرقة فيمن سماه ب "الأمة" ، كما يقال : "فلان أمة وحده" ، يقوم مقام الأمة .
وقد يجوز أن يكون سماه بذلك ؛ لأنه سبب لاجتماع الأشتات من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير ، فلما كان
آدم صلى الله عليه وسلم سببا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم سماه بذلك"أمة" .
وقال آخرون : معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج ذرية
آدم من صلبه ، فعرضهم على
آدم .
ذكر من قال ذلك :
4053 - حدثت عن
عمار ، عن
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع [ ص: 278 ] قوله : "
كان الناس أمة واحدة " - وعن أبيه ، عن
الربيع ، عن
أبي العالية ، عن
أبي بن كعب ، قال : كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على
آدم ، ففطرهم يومئذ على الإسلام ، وأقروا له بالعبودية ، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم ، ثم اختلفوا من بعد
آدم فكان أبي يقرأ : "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" إلى"
فيما اختلفوا فيه " . وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف .
4054 - حدثنا
يونس ، قال : أخبرنا
ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد في قوله : "
كان الناس أمة واحدة " ، قال : حين أخرجهم من ظهر
آدم لم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم"
فبعث الله النبيين " ، قال : هذا حين تفرقت الأمم .
وتأويل الآية على هذا القول نظير تأويل قول من قال يقول
ابن عباس : إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين
آدم ونوح - وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالف الوقت الذي وقته
ابن عباس .
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك ، وقالوا : إنما معنى قوله : " كان الناس أمة واحدة" ، على دين واحد ، فبعث الله النبيين .
ذكر من قال ذلك :
4055 - حدثني
محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : "
كان الناس أمة واحدة " ، يقول : كان دينا واحدا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
قال
أبو جعفر : وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة . كما : -
[ ص: 279 ]
4056 - حدثني
موسى بن هارون ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
كان الناس أمة واحدة " ، يقول : دينا واحدا على دين
آدم ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق ، كما قال
أبي بن كعب ، كما : -
4057 - حدثني
موسى بن هارون ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، قال : هي في قراءة
ابن مسعود : "اختلفوا عنه" عن الإسلام .
فاختلفوا في دينهم ، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين ، " وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " ، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارا منه إليهم .
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد
آدم إلى عهد
نوح عليهما السلام ، كما روى
عكرمة ، عن
ابن عباس ، وكما قاله
قتادة .
وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض على
آدم خلقه . وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك - ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أي هذه الأوقات كان ذلك . فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل من أن الناس كانوا أمة واحدة ، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياء والرسل . ولا يضرنا
[ ص: 280 ] الجهل بوقت ذلك ، كما لا ينفعنا العلم به ، إذا لم يكن العلم به لله طاعة ،
غير أنه أي ذلك كان ، فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة ، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به . وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها"
يونس " : (
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) [
يونس : 19 ] . فتوعد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع ، ولا على كونهم أمة واحدة ، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك ، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان ، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد ؛ لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته ، ومحال أن يتوعد في حال التوبة والإنابة ، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك .
قال
أبو جعفر : وأما قوله : "
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " ، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب ، وكريم المآب ويعني بقوله : " ومنذرين " ، ينذرون من عصى الله فكفر به ، بشدة العقاب ، وسوء الحساب والخلود في النار"
وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " ، يعني بذلك : ليحكم الكتاب - وهو التوراة - بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه . فأضاف جل ثناؤه"الحكم" إلى"الكتاب" ، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين ، إذ كان من حكم من النبيين والمرسلين بحكم ، إنما يحكم بما دلهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عز وجل ، فكان الكتاب بدلالته على ما دل وصفه على صحته من الحكم ، حاكما بين الناس ، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيره .