[ ص: 281 ] القول في
تأويل قوله تعالى ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم )
قال
أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "
وما اختلف فيه " ، وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة" إلا الذين أوتوه" ، يعني ، بذلك
اليهود من
بني إسرائيل ، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها و"الهاء" في قوله : "أوتوه" عائدة على"الكتاب" الذي أنزله الله"
من بعد ما جاءتهم البينات " ، يعني بذلك : من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتاب الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله ، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه ، ولا العمل بخلاف ما فيه .
فأخبر عز ذكره عن
اليهود من
بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتاب التوراة ، واختلفوا فيه على علم منهم ما يأتون متعمدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه .
ثم أخبر جل ذكره أن تعمدهم الخطيئة التي أتوها ، وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمره ، إنما كان منهم بغيا بينهم .
و"البغي" مصدر من قول القائل : "بغى فلان على فلان بغيا" ، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حده ، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمد ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض ، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت : "بغى" كل ذلك بمعنى واحد ، وهي زيادته وتجاوز حده .
فمعنى قوله جل ثناؤه : "
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " ، من ذلك . يقول : لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من
اليهود من
بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبيي عن جهل منهم به ، بل كان
[ ص: 282 ] اختلافهم فيه ، وخلاف حكمه ، من بعد ما ثبتت حجته عليهم ، بغيا بينهم ، طلب الرياسة من بعضهم على بعض ، واستذلالا من بعضهم لبعض . كما : -
4058 - حدثت عن
عمار بن الحسن ، قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قال : ثم رجع إلى
بني إسرائيل في قوله : "
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه " يقول : إلا الذين أوتوا الكتاب والعلم"
من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " ، يقول : بغيا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها ، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس ، فبغى بعضهم على بعض ، وضرب بعضهم رقاب بعض .
قال
أبو جعفر : ثم اختلف أهل العربية في"من" التي في قوله : "
من بعد ما جاءتهم البينات " ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله : "
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " ؟
فقال بعضهم : "من" ، ذلك للذين أوتوا الكتاب ، وما بعده صلة له . غير أنه زعم أن معنى الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، بغيا بينهم ، من بعد ما جاءتهم البينات . وقد أنكر ذلك بعضهم فقال : لا معنى لما قال هذا القائل ، ولا لتقديم"البغي" قبل"من" ، لأن"من" إذا كان الجالب لها"البغي" ، فخطأ أن تتقدمه ؛ لأن"البغي" مصدر ، ولا تتقدم صلة المصدر عليه . وزعم المنكر ذلك أن"الذين" مستثنى ، وأن"من بعد ما جاءتهم البينات" مستثنى باستثناء آخر ، وأن تأويل الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، ما اختلفوا فيه إلا بغيا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات فكأنه كرر الكلام توكيدا .
قال
أبو جعفر : وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية ؛ لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله ، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيا ، فذلك أشبه بتأويل الآية .